التحدي الذي طرحه الرئيس المصري الأسبوع الماضي على المعارضة بأن تأتي ببرنامج سياسي واجتماعي بديل من السياسات المتبعة، صيغة تتكرر لدى كل الأنظمة السياسية العربية التي تتبادل السجال مع أطراف المجتمع.
هذه الصيغة التي تعبرعن إفلاس الحياة العامة العربية تدل على استمرار عجز الأنظمة السياسية واستمرار دورانها حول ذاتها، واستمرار عجز القوى السياسية عن بناء مجتمع سياسي بديل، وبالنتيجة فإن السياسة كالربيع تموت مبكرا في هذا الجزء من العالم.
قصة عدم وجود البديل على قدر ما تبدو واقعية على قدر ما تحمل من تحقير للمجتمع والتاريخ، والتساؤل المستمر حول البرنامج البديل يبدو سؤالا ملتبسا وغير موضوعي ويعبرعن موت الحياة السياسية وإفلاسها لانه لا يقبل سوى بدوام الحال.
في وصف أحوال الحياة العامة العربية يسود الخلط بين الظواهر العامة التي يمكن ان يعاني منها أي مجتمع في مرحلة التحول الثقافي والاجتماعي في مسيره نحو بناء الدولة المعاصرة، وبين الأمراض الثقافية والاجتماعية المستوطنة والمستعصية منذ أجيال. ولعل هذا الخلط هو السبب الأهم لغموض مستقبل الكيانات العربية الراهنة، أي غموض الرؤية وضعف القدرة التحليلية في وصف الواقع ونقده وبالتالي تغييره.
وفي المحصلة، يبدو أن هذا الجزء من العالم الذي يحتضن المجتمعات القديمة التي شهدت ميلاد أوائل الدول والممالك والنظم السياسية، وشهدت التحولات الكبرى في الأفكار والعقائد، يقف اليوم عاجزا أمام مهمة استكمال بناء الدولة الوطنية، نتيجة عجزه المباشرعن توفير مناخات وتهيئة تاريخية لميلاد مجتمع سياسي حقيقي؛ فالمسألة الموجعة والأكثر حاجة هي تعسر ميلاد المجتمع السياسي الذي يضمن استكمال بناء الدولة ويشد عودها، ومن دون المجتمع السياسي المكون من النخب والمؤسسات والأفراد لا يمكن تصور استكمال بناء الدولة الوطنية وتعضيد عناصرالقوة فيها.
تظهر المشكلة الحقيقية في ملء الفراغ من قبل النخب الطارئة، وفي علاقة تلك النخب الطارئة مع المجتمعات، وفيما تقدمه هذه النخب من وصف لهذه المجتمعات وحلول لمشاكلها، وأهمها، أولا؛ تحريف وتشويه الواقع، فهي قادرة على تصعيد خطابات تخترع من خلالها وصفا مشوها للواقع؛ وصفا لأهداف ومصالح محددة، وثانيا؛ هي قادرة على تبرير هذا الوصف وتسويغه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مثل من يسوغ الفقر بالزهد والتخمة بالرفاه. وثالثا؛ هي قادرة على المغالاة في تقدير الاختلافات والفروق بين الجماعات، وقادرة في الوقت ذاته على الاستهانة بالتباينات داخل هذه الجماعات حسب ما تتطلبه أغراضها.
احد مظاهر غياب المجتمع السياسي تحول السياسة إلى فرجة؛ أبطال مشهد الفرجة السياسية يأتون من كل حدب وصوب، من المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني، من العواصم البعيدة ومن خلف كواليس العاصمة والمدن والقرى، وأهم مظاهرها الاستعراض في الحملات الدعائية وحملات العلاقات العامة والإثارة وفنون كسب الود أو افتعال الأزمات، وأحيانا إحياء معارك عمرها عشرة قرون، حيث تتحول السياسة إلى مجرد فرجة درامية من دون مضمون حقيقي أو أهداف واضحة ولا تخدم أكثر من تكريس الأوضاع القائمة وإعادة إنتاجها، تتحول السياسة إلى مجرد فرجة لتفريغ الكبت ومشاعر النقمة، ويتحول طموح الناس في المشاركة والنضال من أجل حياة أفضل، إلى كفاح من أجل حقهم في الفرجة السياسية، وبذلك يصبح الحراك السياسي الانتخابي مجرد صورة كاريكاتيرية مضحكة وبائسة لأنماط إعاقة المشاركة السياسية وتفعيلها.
في معظم تجارب التغير السياسي يتم تجاوز هذه الظاهرة، فهي طارئة تستمر بضع سنوات وتنتهي، المعضلة تبدو في استدامتها، وإعاقة الخروج منها، ولذلك أسبابه؛ أهمها غياب المجتمع السياسي الحقيقي، وعدم وجود حياة سياسية وعدم توفر التوافق على أهداف وقيم كبرى. وفي غياب هذا كله تسود الهلوسة السياسية باسم التغيير والإصلاح وتسود الانتهازية السياسية باسم الوطنية وعدم وجود البديل.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد