تابعنا بحزن وغضب شديدين أنباء اغتيال بناظير بوتو.
منذ قررت بوتو العودة والتهديدات من جماعات اسلامية متطرفة تتوعدها بالقتل، وبالفعل تعرض موكبها فور وصولها الى تفجيرين دمويين ذهب ضحيتهما مئات القتلى والجرحى، ولم يثن ذلك بوتو عن الاستمرار في اللقاءات الشعبية اثناء هذه الحملة الانتخابية حتّى مقتلها أمس.
باغتيال بوتو تصل "الدراما الكربلائية" لهذه العائلة ذروة مأساوية جديدة، عائلة سياسية ارستقراطية لكنها مناضلة وملتزمة بالديمقراطية دفعت ثمنا قاسيا بالسجن والتشريد والقتل. والدها ذو الفقار علي بوتو اصبح رئيسا للدولة ثم رئيسا للوزراء حتّى عام 76 حين انقلب عليه قائد الجيش الجنرال ضياء الحق وسجنه وحكم باعدامه مشترطا التماسه العفو لوقف تنفيذ الحكم، لكن ذو الفقار بوتو في موقف بطولي عزّ نظيره رفض التماس العفو، بل ومنع محاميه أو أيا من أفراد عائلته من انقاذ حياته بطلب العفو من جلاّده وقد اعدم بالفعل في نيسان 79 وكان له من العمر51 عاما.
أمّا الابنة بناظير التي سارت على خطى والدها في العمل السياسي؛ فقد قضت 5 سنوات بين السجن الانفرادي والاقامة الجبرية، وتابعت بعناد وصلابة نضالها السياسي وعادت من النفي عام 86 تستقبلها الجماهير الحاشدة. وقد فازت بوتو وحزبها، حزب الشعب، في الانتخابات واصبحت رئيسة الوزراء، بعد مقتل ضياء الحق في حادث طائرة، مرّتين عام 88 وعام 93، لتصبح الألمع في ظاهرة "الزعيمات الآسيويات". وقد شبه البعض ارثها العائلي بارث آل نهرو في الهند. لكن العائلة استمرت تدفع ثمنا مرّا، فقد اغتيل شقيقها الأكبر مرتضي بالرصاص عام 96، وكان الشقيق الثاني نهواز قد وجد متوفىً في شقته في فرنسا عام 86.
مثّلت القيادة السياسية للعائلة الاتجاه الديمقراطي التنويري من دون التخلي عن الخصوصية الاسلامية لباكستان. وكان والدها قد طرح شكلا من الفكر يراوح بين الاسلامية والليبرالية. وقد واجهت بناظير بوتو حملات معادية عاتية اجبرتها على الاستقالة مرتين من منصبها، وواجهت اتهامات بالفساد خصوصا تجاه زوجها، لكن المحكمة لم تصل في اي يوم لإثبات هذه التهم حتّى في غيابها.
عادت بوتو، كما عاد نواز شريف، من المنفى بعد أن أصبح نظام برويز مشرّف يهتزّ أمام التمرد الأصولي وتزايد الضغط الدولي من اجل توسيع قاعدة المشاركة لكل القوى المستبعدة، واتضح ان بوتو تتمتع بقاعدة شعبية عريضة كفيلة بتحجيم التيارات المتطرفة. وقد نالت بوتو بالطبع عداوة الجماعات الارهابية التي كانت تستفيد من ضيق قاعدة نظام مشرّف، وكانت التقديرات تشير الى تفوق حزب بوتو في الانتخابات القادمة.
بالنظر الى التهديدات المعروفة، فمن الطبيعي ان تتجه اصابع الاتهام الى هذه الجماعات، لكن هذا لا يحسم الشك، فنظام مشرف كان مهددا من احتمال فوز بوتو، وهناك اتهامات تجاه الأمن بالتقصير، لكن هناك احتمالات بالاختراق، وطريقة الاغتيال مثيرة للريبة، ولضمان قتلها الأكيد فقد تم أولا اطلاق الرصاص عليها مباشرة ثم وقع التفجير الانتحاري وكأن التفجير الذي يحمل عادة بصمة الجماعات الارهابية كان مصمما للتغطية على الاغتيال بالرصاص.
لقدّ حرك هذا الاغتيال موجة من الغضب والحزن الواسعين على خسارة هذه السيدة الاستثنائية الشجاعة التي لم تشلّ المحاولات الدموية المخيفة السابقة قيادتها المقدامة لحملتها الانتخابية. وقد اضاف اغتيالها ذروة مأساوية جديدة في "السيرة الكربلائية" لهذه العائلة، لكن اغتيال بوتو وجه طعنة رهيبة لمشروع اعادة باكستان للاستقرار والديمقراطية.
ومن الصعب توقع تداعيات هذا الاغتيال ابتداء من ردود الفعل في الشارع والصدامات التي قد تأخذ ابعادا دموية، واذا ساء الموقف أكثر ربما يتم تأجيل الانتخابات أو حتّى الغاؤها، وهو بالطبع ما تريده الجماعات الارهابية والمتطرفة؛ فنظام مشرّف خصم مناسب لتستمر بالحرب عليه، لكنها تخاف أكثر من صناديق الانتخاب والديمقراطية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جميل النمري