الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:-
ففي هذا اللقاء الذي يتجدد معكم نأخذ موضوعاً مهماً يتعلق بالمولود سواء كان ذكراً أو أنثى، ذلك الموضوع هو العقيقة.. تعريفها ومشروعيتها ومسائل أخرى متفرقة يهمنا معرفتها..
1. تعريف العقيقة:
قيل مشتقة من الشعر الذي على رأس الصبي حين يولد، وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة؛ لأنه يحلق ذلك الشعر عند الذبح.
وذكر الإمام أحمد -رحمه الله- أن العقَّ معناه القطع، ولهذا قيل: عقوق الوالدين، أي قطعهما، فاشتقت العقيقة من العق، وهو القطع أي: قطع رأس الشاة وذبحها..1
2. مشروعيتها:
قول الجماهير من السلف والخلف أنها مشروعة، وأنها من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، بل قد نقل عن مالك أنه قال: (هذا الأمر الذي لا خلاف فيه عندنا).2
وقد قال أصحاب الرأي (الأحناف) أنها ليست بسنة، وخالفوا في ذلك الأخبار الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه وعمن روى عن ذلك من التابعين.. ذكر ذلك ابن المنذر. واستدلوا بأدلة لا تدل على كراهية العقيقة..
قال الإمام أحمد عن هذه الأحاديث المعارضة لما ثبت في أمر العقيقة: (ليست بشيء، لا يعبأ بها، وقد استفاضت الأحاديث بأن النبي عق عن الحسن والحسين)3.
ومن أدلة مشروعيتها: اتفق أهل الحديث قاطبة وفقهاؤهم، وجمهور أهل السنة على أن العقيقة مشروعة، واحتجوا على ذلك بما يلي:
عن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى))4.
وعن سمرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه))5.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة))6.. والأحاديث في هذا كثيرة ،للمزيد انظر (تحفة المودود) لابن القيم.
ولا يجوز أن يصب دم على رأس الصبي بعد ذبيحة العقيقة؛ لأن ذلك من فعل الجاهلية، وقد وردت رواية حصل فيها وهم من بعض الرواة فقال: ( تذبح عنه يوم سابعه ويدمى) بدل (ويسمى)، وأخذ من ذلك حكماً شرعياً وهو مشروعية لطخ المولود بدم العقيقة، لكن العلماء خالفوا ذلك، والصحيح أن الرواية (يُسمَّى) قال أبو داود السجستاني -رحمه الله-: (خولف همام في هذا الكلام، وهو وهم من همام، وإنما قالوا: يُسمى، فقال همام: يُدمى! قال أبو داود: وليس يؤخذ بهذا )7.
ثم إن جمهور أهل السنة بعد اتفاقهم على مشروعية العقيقة اختلفوا: فقال أهل الظاهر - داود الظاهري وابن حزم وأتباعهما- بأنها واجبة، قالوا: لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بها، وعمل بها.. وذكروا أحاديث..
وقال قوم: إنها سنة لا تجب على أحد.. ومن أدلتهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في بعض الأحاديث: (( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل))8 فعلقها بمحبة فاعلها، ولا يتسع المقام لذكر أدلة الفريقين ومناقشاتهم..
3. الوقت الذي تستحب فيه:
(تُذبح يوم السابع، فإن لم يفعل ففي رابع عشر، فإن لم يفعل ففي إحدى وعشرين) وهذا مروي عن أحمد؛ وذَكَر أنه من قول عائشة.. وهو حديث صحيح أخرجه الحاكم (4/238) وصححه ووافقه الذهبي.
وحجتهم في ذلك -أيضاً- ما سبق من الحديث: ((الغلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويسمّى))9 وهذا قول عامة أهل العلم: أنها تذبح اليوم السابع. ومنهم من جوَّز أن تذبح في الرابع عشر والواحد والعشرين كما سبق..
4. تفاضل الذكر والأنثى:-
اختلف العلماء على قولين: فقال الجمهور: إنه يذبح عن الذكر شاتان، وعن الأنثى شاة واحدة، واستدلوا على ذلك بحديث أم كرز أنها سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العقيقة فقال: ((عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، لا يضركم أذكراناً كنّ أم إناثاً))10.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ( أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نعق عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة)11. فهذا قول الجمهور: شاتان عن الابن، وشاة عن البنت.
وقال الإمام مالك: يذبح عن الغلام شاة واحدة، وعن الجارية شاة، والذكر والأنثى في ذلك سواء.. ودليله ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنه- : (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عق عن الحسن والحسين كبشاً كبْشاً)12. وروى جعفر بن محمد عن أبيه: (أن فاطمة ذبحت عن حسن وحسين كبشاً)13..
قال مالك: وكان عبد الله بن عمر يعق عن الغلمان والجواري من ولده شاة شاة، وهذا أيضاً قول أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين -رضي الله عنهم-..
وقد قال ابن القيم: ولا تعارض بين أحاديث التفضيل بين الذكر والأنثى، وبين حديث ابن عباس في عقيقة الحسن والحسين، فإن حديثه قد روي بلفظين، أحدهما: أنه عق عنهما كبشاً كبشاً، والثاني: أنه عق عنهما كبشين، ولعل الراوي أراد كبشين، عن كل واحد منهما، فاقتصر على قوله: كبشين، ثم روي بالمعنى كبشاً كبشاً، وذبحت أمهما عنهما كبشين، والحديثان كذلك رويا، فكان أحد الكبشين من النبي -صلى الله عليه وسلم- والثاني من فاطمة..
واتفقت جميع الأحاديث.. وهذه قاعدة الشريعة فإن الله -سبحانه- فاضل بين الذكر والأنثى، وجعل الأنثى على النصف من الذكر، في المواريث، والديات، والشهادات، والعتق، والعقيقة)14. وهذا جمع بين الأحاديث جيد.
5. فوائدها:
- أنها قربان يقرب به عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا..
- أنها تفك رهان المولود، فإنه مرتهن بعقيقته، قال الإمام أحمد: مرتهن عن الشفاعة لوالديه، وقال عطاء بن أبي رباح: مرتهن بعقيقته: يحرم شفاعة ولده.15
- أنها فدية يُفدى بها عن المولود كما فدى الله -سبحانه- إسماعيل الذبيح بالكبش.
6. استحباب طبخ لحم العقيقة:
الأفضل في العقيقة أن تطبخ، ثم توزع طريّة أو يجتمع الناس لأكلها في مكان واحد، ولا ينبغي توزيعها نيئة؛ لأن ذلك يكلّف الناس أمور الطبخ وغير ذلك، قال أبو داود للإمام أحمد: تطبخ العقيقة؟ قال: نعم، قيل له: إنه يشتد لهم طبخه، قال: يتحملون ذلك.. (ذكره الخلال في جامعه).
قال ابن القيم -رحمه الله-: (وهذا لأنه إذا طبخها فقد كفى المساكين والجيران مؤنة الطبخ، وهو زيادة في الإحسان، وفي شكر هذه النعمة، ويتمتع الجيران والأولاد والمساكين بها هنيئة مكفية المؤنة).16
وهذا تنبيه جيد، وأكثر أهل زماننا يطبخونها، ثم يدعون الجيران والأقارب والمساكين ليأكلوها طرية، دون تعب طبخ ولا عناء، وهذه ظاهرة جيدة تدل على أن الخير لا يزال منتشراً..
7. سِنُّ العقيقة الذي يُجزي:
السن الذي يشترط فيها مثل ما يشترط في الأضحية، فالضأن ستة أشهر فما فوق، والمعز سنة فما فوق، والبقر سنتان، والجمال خمس سنوات.. هذا ما ذكر عن الإمام مالك وغيره17
8. هل يصح الاشتراك فيها؟
المشروع أن يذبح عن المولود رأساً بكامله، ولا يُجَّزأ بين اثنين فأكثر؛ لأن المقصود من الذبيحة إراقة الدم والقربان بذلك ولا يُتوزع، والاشتراك فيها لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من السلف الصالح، فدل على أنهم لم يكونوا يفعلونه..
9. هل تصح بغير الغنم كالإبل والبقر؟!
اختلف العلماء على قولين:
- أن البقر والإبل تجزئ عن الغنم.. فقد كان أنس بن مالك -رضي الله عنه- يعق عن ولده بالجزور -الجمل- وكذا ورد عن أبي بكرة.
- أن ذلك لا يجزئ؛ لأن الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: ((عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة))18. فذكر الغنم ولم يذكر غيرها.
وحجة من أجاز ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً))19. فنظر إلى عموم اللفظ: دماً، ولم يحدد بشيء معين.. ويجوز أن يقال: إن هذا الحديث مجمل، وحديث: (شاتان وشاة) مفسر، والمفسر مقدم على المجمل.20
10. مصرفها:
الإنسان مخير في ذلك: فهو إما أن يطبخها ويدعو الجيران والأقارب والمساكين لأكلها.. أو يوزعها على الأقارب والجيران والمساكين مطبوخة، أو يهدي ثلثها، ويأكل ثلثها، ويتصدق بثلثها؛ كما يفعل بالأضحية، ورَدَ نحو هذا عن الإمام أحمد -رحمه الله -.
11. من لم يعق عنه أبواه، هل يعق عن نفسه إذا بلغ؟
لم يثبت بذلك حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد وردت عن أحمد بن حنبل روايات تفيد بأن ذلك جائز، قال: (إن فعله إنسان لم أكرهه)..
وما ذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عق عن نفسه فهو حديث لا يصح21..
12. اختصاصها بالأسابيع:
قد تقدمت الآثار بذبح العقيقة يوم السابع، وقد ذكر ابن القيم تعليلاً عجيباً لاختيار اليوم السابع لذبح العقيقة فيه..
ومخلص ما ذكره: أن آخر يوم من الأسبوع يعد رأس الأسبوع، فكأن المولود انتهت له مرحلة من مراحل عمره؛ لأنها تبدأ بالأسابيع، ثم بالأشهر، ثم بالسنين، ثم بالمراحل. واكتمال الأسبوع دليل على سلامة بنيته، وصحة خلقته، وأنه قابل للحياة بإذن الله -تعالى-، فكان الأسبوع دوراً يومياً، كما أن الشهر دوراً أسبوعياً، كما أن السنة دوراً شهرياً.. ثم ذكر سر اختيار العدد السابع في كثير من الأمور: سبع سماوات سبعة أيام... إلخ.22
نسأل الله أن يطيل أعمارنا وأعمار أبنائنا فيما يحبه ويرضاه إنه ولي ذلك والقادر عليه.. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين..
1- انظر (تحفة المودود بأحكام المولود) لابن القيم ص44. وهذا الكتاب هو مرجع موضوعنا هذا.
2- موطأ مالك (2/502).
3- انظر (تحفة المودود).
4- رواه البخاري برقم ( 5049 ).
5- رواه أهل السنن كلهم، وهو حديث صحيح. انظر صحيح ابن ماجه رقم ( 2563 ).
6- رواه أهل السنن وهو حديث صحيح. انظر صحيح ابن ماجه رقم ( 2560 ) وغيرها من كتب الألباني.
7- انظر سنن أبي داود عند حديث رقم ( 2837 ).
8- رواه مالك وأحمد بن حنبل وأبو داود والنسائي.
9 - سبق تخريجه.
10- رواه الترمذي والنسائي وأبو داود. انظر صحيح أبي داود رقم ( 2460 ).
11- رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة. انظر صحيح ابن ماجه رقم ( 2561 ).
12 رواه أبو داود، وصححه الألباني فيه برقم( 2466 ) إلا أنه قال: لكن في رواية النسائي: (كبشين كبشين) وهو الأصح.
13- رواه ابن أبي شيبة وابن حزم في المحلّى و البيهقي في السنن.
14- تحفة المودود بأحكام المولود صـ( 57- 58 ).
15- اعترض ابن القيم – رحمه الله - على ذلك فقال: (وفيه نظر لا يخفى) وذكر التعليل الذي ارتضاه، وهو: أن الإنسان مرتهن بكيد الشيطان منذ أن يخرج من بطن أمه، فيطعنه في خاصرته، فيبدأ الكيد له من ذلك الوقت، فلا يمكن أن يفك رهانه ذلك إلا الذبح عنه والتقرب بذلك لله U .. راجع إن شئت تحفة المودود (ص61-63).
16- تحفة المودود ص64.
17- المصدر السابق ص68.
18- سبق تخريجه.
19- سبق تخريجه.
20- انظر تحفة المودود ص69- 70 نقلاً عن ابن المنذر.
21 - قد روي هذا الحديث من طريقين عن أنس وحسنه الألباني، وعن عكرمة مرسلاً وسنده ضعيف، لكن أكثر من تكلم على هذا الحديث من أهل العلم ضعفوه.
22- تحفة المودود ص79-80.
المراجع
موسوعة امام المسجد
التصانيف
المعرفة