بفعل عوامل موضوعية وأخرى ذاتية عاشت الحركة الإسلامية ردحا من الزمن على وقع وتوجيه فكر الصدام المنبعث من ثقافة خندقية لا تكاد تخرج إلى نور الشمس ووضح النار، وليس هدفنا هنا محاكمة ذلك الفكر ولا تقويم تلك الفترة وإنما هو العبور مباشرة إلى نقيضه بأعصاب باردة لا تلهيها العواطف المتأججة في صدورنا إلا في إطار الضوابط الشرعية والنظرة الأصولية.
إن الفتية أصحاب الكهف لماّ قاموا من نومهم وفكّروا في تدبير حاجاتهم احترزوا من كل أشكال التحدي غير المتكافئ والصّدام غير البصير وآثروا العافية: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا)... أكدوا على الحركة في صمت بعيداً عن الإثارة واستجلاب الأذى، وهذا من الفقه الذي ينبغي لأبناء الحركة الواعية والمنهج الدعوي أن يتسلحوا به مع العلم أن الكتاب والسنة يطفحان بأصوله ومقاصده وحتى تفاصيله لمن أزاح عن بصره غشاوة الأفكار المعلبة وتقديس تراث العلماء لمجرد أنهم عظماء !
وبدل الخوض في تعريفات اجتهادية لفكر العافية نفصل التركيز عن مقوماته ومظاهره في عجالة تثير الموضوع ولا تغني عن التعمق فيه:
1- البناء بدل الهدم:
  لقد آن أن نتفهم جيدا أن الإسلام بناء مفصل وهدم مجمل ، فهو لا يعمد إلى الهدم إلا بالقدر الضروري الذي تتطلبه عملية البناء الشامل المتكامل، والحقيقة أن شباب الصحوة _ أو كثير منهم _ عكسوا الأمر فركزوا على هدم ما هو موجود من مفاهيم ومؤسسات وممارسات وأحلوا محله أدبيات هي أقرب إلى الكلام العام والمثالي الذي مفاده أن الإسلام هو الحل ! هكذا ..بدون تفصيل للبديل المقترح ولا استبقاء للصالح الموجود.
2- إيقاد شمعة بدل سب الظلام:
   وسيرة رسول الله والسلف الصالح حجة في هذا الباب، فكم قام الرسول صلى الله عليه وسلم بأعمال تبدو صغيرة لكن عملية التراكم أدرجتها كعوامل فعالة في منهج التزكية والتغيير وإقامة البناء الجديد الشامخ ،ولذلك أوصى – صلى الله عليه وسلم – بالكلمة الطيبة والثغر الباسم والتصدق ولو بشق تمرة ، بيد أننا غدونا قوما يسبون "الجاهلية" ويشتمونها ويجرحونها لكنهم لا يقدمون عملا مجديا فعالا لتغييرها على مستوى الأفكار والخطط والبرامج والدراسات المستقبلية  ونحو ذلك ، إلا بعض الجهود المشكورة التي لا تفي بالغرض ولا تؤدي واجب الكفاية.
3- استعمال الأسلوب الطبيعي في التغيير بدل الأسلوب الجراحي القصري:
 هذا الأسلوب بطيء لا يقدر عليه المستعجلون لذلك لا يستهوي إلا القليل من الإسلاميين ذوي البصائر وعقلية الانسجام مع السنن الربانية في الكون والخلق، لكنه وحده الطريق الموصل، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يهدم صنما في مكة لأن ذلك كان سيؤدي إلى استئصال الدعوة الوليدة لكنه ربى رجالا انتقلوا من عبادة الأوثان إلى تحطيمها بأيديهم باعتبار ذلك من أكبر القربات أي عن قناعة لا يخشى معها أي فتنة داخلية، كما أنه – عليه الصلاة والسلام – لم يِؤد فريضة الحج بعد فتح مكة وانتظر عودة التقويم الزمني إلى طبيعته بعد أن تصرف فيه العرب بالنسيء ، وقال بعدها "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أي عاد التقويم إلى حالته الطبيعية، فمن ضمانات النجاح أن نتربى على اعتماد  العمل الدؤوب المتواصل – وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل -  ولا نعوّل على ساعات فورة الحماس وغليان الدم، فإنه من السهل الإمساك بالسلاح وإطلاق النار لكن الصعوبة تكمن في  الإمساك بالقلم والصبر عليه في عمليات  تحصيل المعرفة والتخطيط والدعوة والإنتاج، والله تعالى قد ندب إلى القلم لا إلى المسدس.
4- الاندماج في المجتمع بدل الاستعلاء عليه:
   إن مادة الدعوة ووعاء الإصلاح هو مجتمعنا بما فيه من عناصر صحية ومرضية، وأحسن طريقة لدعوته هي تبني همومه والسعي إلى حل مشكلاته لا كخطّة تكتيكية وإنما كمبدأ ثابت في حركتنا،  والدعوة امتداد لسعي الأنبياء والمرسلين ودأب العلماء العاملين ، وهؤلاء منبثقون من مجتمعهم إذا استعلوا فاستعلاؤهم إيماني  لا علاقة له بالتكبر ولا احتقار الناس  إنما هو مجافاة للفساد والانحراف إلى جانب حب صادق متدفق للمدعوين يدفعهم إلى تبني قضاياهم وانشغالاتهم وإنفاذ شرع الله فيها في إطار درء المفاسد وجلب المصالح ،وقد أمرنا بقضاء الحاجات وتفريج الكربات كلون متقدم من ألوان العبادة لله تعالى ، وهناك أنبياء ما من وظيفة لهم _ بعد تحرير التوحيد _ سوى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والخلقي والسياسي  كما كان شأن شعيب ولوط وموسى وهارون عليهم السلام .
5- إنجاز الأعمال في العمق:
إن عشرات من المواضيع المهمة والمشاريع النافعة لم تشبع بحثاً ولم تعمر طويلا بسبب الضجر الذي يصيب كثيراً من أبناء الحركة الإسلامية  _ بل ومن الحركات نفسها _ من الاكباب على العمل مدة طويلة مما جعل أعمالنا كثيرا ما تقف عند نقطة البداية و مستوى السطح فتخرج جيلاً ممن يعلمون ظاهرا من الإسلام ومن الواقع، لا يعملون فإذا عملوا لا يواصلون،فأنى للنتائج أن تتحقق كما نأمل ؟ إننا لو ذقنا حلاوة العمل المتعمق لحال ذلك بيننا وبين تخبطات مؤسفة ما زالت الأمة تتجرع غصصها رغم علمنا أن الله يحب إذا عمل أحد عملا أن يتقنه.
هذه بعض مقومات ومظاهر فكر العافية نتبعها بتحذير ملح من ترك نفس المسلم فريسة للفراغ، والفراغ في ميدان الدعوة يفضي إما إلى التساقط أو إلى تبني فكر الصدام.
  كما نؤكد أن عدم التشبع بفكر العافية يفرز في الساحة الإسلامية نماذج غريبة من الدعاة ما كان يجوز أن توجد فيها
، فهناك:
1-الداعية الحطيئة: وهمه السب والتجريح ..وباسم الإسلام !  بينما لا يكون الملتزم بدينه سوى عف اللسان حلو المنطق اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وامتثالا لأمر الله " وقولوا للناس حسنا "
2-الداعية براقش: الذي يقوم بعمل طائش يجر على الدعوة مصائب فادحة لأنه لا يحسن العمل الصامت  المتأني .
 3-الداعية الأعرابي: أي صاحب الروح الخشنة والطبع الغليظ، فهو لا يحس بجمال ولا يملك ذوقاً حضاريا، فلم يبق له سوى التحريم ورؤية البدع والمنكرات في كل مكان وفعل، بمناسبة وبغير مناسبة ، يتكلم باسم الإسلام لكنه يتصرف في الأحكام وفق مزاجه هو فيضر بالدعوة ويصد عن سبيل الله من حيث لا يدري ،وكثيرا ما يفضي نمطه إلى صدامات نحن في غنى عنها.
فلعل أبناء الحركة الإسلامية يلتفتون إلى أهمية فكر العافية فيتفقهون فيه على ضوء مقاصد الإسلام ونصوص الشريعة فينتفعون وينفعون .

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع