نحن من الذين تأقلموا على غياب الكهرباء. مثلنا مثل غيرنا من العراقيين, الذين كتب عليهم العيش في الظلام الدامس. حتى صار ليلنا سهر, ونهارنا قهر. لذا فنحن على علم مسبق بان حرارة الصيف القادم ستشوينا نهارا, وتبعثرنا ليلا فوق سطوح منازلنا الساخنة. فنتقلب على أضلعنا يمينا وشمالا. ونخوض صراعا طويلا مع سلطان النوم, الذي سيتمرد علينا. . وستتبخر أجسادنا في هذه المحرقة الجماعية المرتقبة. فنتفحم تحت حرارة الشمس الغاضبة. وتتسامى أرواحنا المكوية في الفضاء كما تتسامى الغازات الملتهبة. ثم تتيبس جلودنا, وتتقشر, وربما تتكسر أجسادنا المتيبسة, فنتفتت من القهر كرقائق الذرة الصفراء . وتنثرنا الرياح فوق إسفلت الطرقات المنصهرة. .
من المتوقع أن ترتفع الحرارة في الظل حتى تصل الى 52 درجة بمقياس جهنم الحمراء. فنهرع الى الانهار والجداول, لنتبرد بالمياه المشبعة بالكوليرا. أي كمن يستجير من الرمضاء بالنار. .
ستطاردنا جيوش البعوض والبراغيث في ظلمة الليل البهيم. ولو كان أبو الرماح الأزدي حيا في عصرنا هذا. لصدح بهذه الأبيات :
تطاول (في بغداد) ليلي ولم يكن
بوادي الغضى ليلي علي يطول
تؤرقني حدب قصار أذلة
وإن الذي يؤذينه لذليل
إذا جلت بعض الليل منهن جولة
تعلقن في رجلي حيث أجول
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
وليس لبرغوث علي سبيل
وستطاردنا أشباح وعفاريت الاحتباس الحراري حيثما هربنا. فنتهاوى في براكين الهيئة العامة لتقطيع الطاقة الكهربائية كالجذوع الخاوية. . فقد اختارتنا الأقدار من بين كل الأمم لكي تمعن في إيذائنا. وتحرمنا وحدنا من نعيم وبركات صاحبة الجلالة ( الكهرباء ). .
سمعنا إنها وصلت إلى مجاهل أفريقيا. وتغلغلت في مستنقعات غابات الأمازون. ومنحت الاستقرار لقبائل البالوبا والتاميل والشروكي, وجميع عشائر الهوتو والتوتسي, وقبائل اللر القابعة في كهوف جبال زاكروس. . وسمعنا إنها هبطت منذ أعوام في صحراء دارفور. لكنها هجرتنا, وصبت حقدها علينا من دون أن نقترف ذنبا, أو نرتكب اثما. . فقد وفرنا لها كل أنواع الوقود, والنفط الخام, والغاز الطبيعي بالمجان. ولم نحدد لها الكمية والنوعية والكيفية. ووفرنا لها جميع مصادر الطاقة التي تنضب, والتي لا تنضب. فطلبت منا الخضوع لسياسة الترشيد, والانصياع لبرمجة التوليد. والتقيد بنظام التوزيع. فوافقنا على الفور. وقدمنا لها النذور والقرابين. ومن دون أن نسألها عن تحديدات الفترات الزمنية المخصصة لهبوط بركاتها علينا. . .
لكن التوزيع تحول إلى تقطيع. والتقطيع تحول إلى إزعاج. والإزعاج إلى كابوس. والكابوس جثم على صدورنا, وسرق راحتنا, وعبث باستقرارنا. وتفاوتت أساليب التقطيع من منطقة إلى أخرى. وانقطعت الكهرباء كليا عن بعض المناطق. بينما راحت تتقطّع على هواها في مناطق أخرى. وصار تقطيعها مزاجيا. بيد إنها مازالت تزورنا على غير موعد, وتقتحم منازلنا أحيانا على شكل ومضات, أو جرعات عشوائية متذبذبة من حيث الشدة والقوة. .
وبات التقطيع هوايتها وحرفتها المفضلة. حتى تقطعت أنياط قلوبنا. وتهشمت أرواحنا. وعادت بنا الأيام إلى عصر المهفة السومرية. ومازلنا ننتظر معجزة استقرار تقطيعها. اما بخصوص موضوع انتظام توزيعها في القرى والارياف فصار عندنا من الأحلام المستقبلية. . لكنها والحمد لله مازالت تتلألأ في قصور أعضاء البرلمان . اللهم اجعل صبرنا على انقطاع الكهرباء في ميزان حسناتنا. اللهم وابدلنا ظلمة الدنيا بنور الآخرة. اللهم امين. .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب