كل المجتمعات المتحولة تحتاج الى مناقشة تاريخية فاصلة تخلصها من قلق المصير؛ فالمناقشات الكبرى الفاصلـة التي ترتقي إلى صفة المناقشة التاريخية هي جسر العبور الحقيقي، وهي محصلة صراع افكار حقيقي تدور بين النخب وقادة الرأي والمثقفين، ويدخل في إطارها حوار مؤسسات، وتصل إلى الشارع وإلى الناس العاديين أحيانا.
هكذا حدث في مطلع التسعينيات في الولايات المتحدة بعد الموت المفاجئ للاتحاد السوفيتي، حينما وجدت أميركا نفسها وحيدة على قمة العالم، وهي المناقشة التي خاضتها مراكز الدراسات والبحوث والجامعات والأكاديميون والنخب السياسيـة والقوى الاجتماعيـة ووسائل الإعلام وخرجت بالأفكار والاستراتيجيات التي شغلت العالم منذ تلك الفترة، حدث ذلك في فرنسا اكثر من مرة، آخرها في مواجهة زحف العولمة، حينما شارك الفلاسفة وطلبـة الجامعات والمارة في الشوارع في مناقشـة وطنيـة كبرى أسفرت عما سمي (بالاستثناء الثقافي)، أي رفض التنميط الثقافي الذي تديره العولمة، حدث ذلك في كوريا الجنوبية والهند وما يزال يحدث في تركيا وفي ايران وغيرهما.
في الأردن يقال إنه لا يوجد حوارات سياسية او اجتماعية حقيقية، بل سجالات وتنابز أحيانا، بمعنى لم تبدأ المناقشـة الكبرى بعد، رغم ما يثار من ضجيج، ببساطـة لأن قيما كبرى في الحياة السياسيـة لم تحسم بعد لدينا، في كل مرة تعاد الاطروحات المركزيـة ذاتها تحت مسميات جديدة؛ مرة بالاختباء خلف مسميات مسروقـة من مجال سياسي آخر من دون أي تكييف وطني أو محلي، ومرة خلف مسميات منحوتة من الخيال السياسي، والتي لا تعبر عن شيء او عن سياسة فعلية تخدم الحاجة الى التحديث والاصلاح.
منذ لجنـة الميثاق الوطني في مطلع التسعينيات، مرت الحياة السياسيـة الأردنيـة بمحطات حواريـة متعددة، كل مرة كان يروج فيها للحوار الوطني من أجل تمرير صفقـة سياسيـة ما من قبل الحكومات، وأحيانا تطلق تلك الحوارات وتتابعها مراكز قوى بعينها لتمرير مصالح وصفقات محددة، في حين أن ما يسمى اليوم حالـة من الحوار؛ هي بالكاد حالة من السجال تختصر على بعض كتاب الصحف الذين يتبادلـون الغمز واللمز، من دون القدرة عن الإفصاح بشكل واضح عن حالـة الاستقطاب السياسي الجاريـة، في اجواء غياب دائم للأحزاب وغربـة واضحة للحركة الإسلامية عن المحتوى الاجتماعي المحلي في ضـوء انشغالها بالنضال الأممي الذي ترجم هذه المرة على شكل صفقـة سياسيـة يتدنى فيها سقف الأيديولوجيا، وترتفع فيها جدران اخرى وتستريح بموجبها تحت يافطة المقاطعة ورفض المشاركة في البرلمان القادم، كما يغيب المجتمع المدني والجامعات والأكاديميون، وحتى النقابات المهنيـة التي طالما كانت أدوات الحراك السياسي، ودخلت هي الأخرى في هدنة طويلة مع حكومات التنمية السياسية والاصلاح الاداري والنزاهة الوطنية.
وينال هذا الصمت أطرافا أخرى في المجتمع بينما تحيا تنظيمات فاعلة أخرى عهد التنظيمات الإصلاحية في أواخر الدولـة العثمانية؛ خذ على سبيل المثال بعض المؤسسات الثقافية التي تستعد لانتخاباتها المقبلة بانتكاسة سياسية وفكرية وبمضامين ومرجعيات تعيدنا الى تقسيمات خطوط النضال في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من بيروت مرورا بدمشق وصـولاً إلى بغداد، وأما الصمت الأكبر فيعم المجتمع الأردني وقاعدته الأساسية المتمثلـة في المحافظات الأردنية، إلا انه صمت من نوع اخر لا يعرف الصفقات السياسية ولم يمارسها.
بقدر ما نحن بحاجـة ماسـة إلى نقاش وطنـي حقيقـي تشترك فيـه القـوى وجميع أطراف المجتمع كافة، يحدد الخيارات الوطنيـة وأدواتها، بقدر ما نحن بحاجة ايضا إلى وفاق يحسم القيم السياسيـة الكبرى التي من دونها لا يمكن أن تدار المناقشـة الكبرى؛ وأهمها ان الإصلاح والتغيير والتحول الديمقراطي والاجندات بمختلف موضوعاتها يجب ان تصب في قوة الدولـة الأردنيـة، وقبل ذلك أن يتعلم المجتمع المدني، قبل الجميع، ماذا تعني الدولة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد