تزهو الدوحة الصغيرة بإنجاز عجزت عنه العواصم الكبيرة، مع أن كلمة السرّ في النجاح هي في تلك العواصم من قبل ومن بعد.
وأياً تكن كلمة أو كلمات السرّ التي يتبارى المحللون في فكّ ألغازها فالنتيجة التي نسعد بها أيما سعادة قد تحققت. الاتفاق المعجزة أُنجز، وسيجتمع مجلس النواب اللبناني غدا لانتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا. وسوف تستعيد بيروت حياتها وينتهي الاعتصام والعصيان الذي شلّها وسوف يتوارى خطر الصدام الذي جثم على صدور اللبنانيين ونكّد عيشهم وقوّض اقتصادهم وهجّر شبابهم.
كيف أمكن لشهور طويلة احتلال وسط بيروت وتعطيل البرلمان وشلّ البلد من قبل أقليّة تريد فرض شروطها على الأغلبية وينال ذلك تعاطف أوساط واسعة حتى لا نقول غالبة من الرأي العام العربي؟!
واقع الحال أن أوساطا من الرأي العام لا نجزم بنسبتها، لكنها عالية، كانت منحازة سياسيا وليس ديمقراطيا، للذين تفترض أنهم يقفون ضدّ أميركا وإسرائيل ويتصدّون للتابعين لأميركا وإسرائيل. هذه هي المعادلة القاتلة، تماما كما كان مناضلون شرفاء يتعفنون في السجون التي يفترض الرأي العام انها تضم فقط العملاء والمارقين.
قلّة توقفت عند ظاهرة الاستقواء على الشرعية والديمقراطية وقيّمت الموقف من هذه الزاوية. فالدكتاتورية تحكم بالعصا والديمقراطية بأغلبية الأصوات ولا يحق للأقلية تعطيل القرار وإلا ذهبنا الى بديلين الدكتاتورية أو الحرب الأهلية. لم يتوقف كثيرون أمام ذلك بل إن اغراء الضغط العسكري على الأغلبية كان سيجد من يصفق له (كما حصل في اجتياح بيروت) لحسم الأمر مع اغلبية كريهة كان يمكن دائما تسويغ التمرد عليها واستضعافها وترهيبها بادعاء أنها أقلية في وسط الشعب وحكومتها "فاقدة للشرعية" لغياب طائفة في بلد يقوم على التوافق. ويمكن إضافة ركام من الكلام السقيم التبريري الذي يسقط كلّه لو تخيلنا العكس أي حزب الله في الأغلبية وخصومه في الأقلية؟
مضت الأزمة على خير وتنفسنا الصعداء، لكن درسا محزنا يمثل أمامنا! فمايزال العداء لإسرائيل ومن وراء إسرائيل عباءة سحرية صالحة لإخفاء عورة وبشاعة كل ممارسة غير ديمقراطية وغير شرعية. وأن ما سوّغ نشوء ديكتاتوريات فاسدة ما زال –ويا لدهشتنا– صالحا رغم كل ما رأينا وعانينا من خيبات ونكبات ونكسات وكوارث.
كنا نلاحظ إمعان المعارضة في ربط الطرف الآخر بإسرائيل والغرب وأميركا وهو تمويه رخيص على حقيقة الصراع، لكنه كما ثبت سهل التمرير، كما لو أن المؤمن يلدغ من الجحر ألف مرّة ولا يتعلم لألف مرّة لاحقة! ولو افترضنا أن حزب الله يملك أوراق اعتماد معتبرة بتاريخ المقاومة في الجنوب على تمايز المشكلة مع الحكومة فماذا عن سورية، التي لم تسمح للمقاومة يوما بازعاج جبهتها وهي تستعد الآن لمفاوضات (قد تكون ذات صلة بالانفراج في لبنان) لن يندرج على جدول اعمالها أي شرط يخصّ الفلسطينيين!
فالسوريون يجمعون الآخرين أوراقا في جيوبهم ولا يقدمون انفسهم ورقة في جيب الآخرين، وهكذا كان حال لبنان ورقة بيد آخرين على حساب راحة شعبه وأمنه واستقراره وهو ما قامت عليه انتفاضة الأرز بعد اغتيال الحريري.
لا بأس, فات الخطر ويستعيد اللبنانيون أنفاسهم، بينما المراقبون ينبهون أن هذا مجرد تسوية مرحلية لم تحلّ المشكلات الأساسية للبلاد. وهذا لا يقلل من قيمة الاتفاق؛ فلبنان التقسيمات الطائفية كان هكذا دائما ولا بأس من استمرار الحوار سلميا حول كل شيء في الصيغة اللبنانية، لكن سلميا دون تهديد أو تعطيل المؤسسات كما فعلت المعارضة حتّى الأمس وهو ما رفضناه بلا مواربة ونأمل أن يتقدم الوعي العام عندنا فلا تنطلي عليه أي ذرائع من النوع الذي برر الامساك بالشرعية من رقبتها على رؤوس الأشهاد لتركيعها! تركيعها لمن؟ ظاهريا لله وفي الحقيقة للصنم!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جميل النمري