أغلقت وزيرة الخارجية الأميركية ملفا آخر من جولات المفاوضات الأطول في تاريخ دبلوماسية إدارة الصراعات، حينما اعترفت بكل وضوح بعجز الولايات المتحدة عن ثني إسرائيل عن الاستيطان، وبينما حملت مسؤولية هذه النهاية المتوقعة طرفي الصراع، لم تتردد السيدة الأميركية عن إعلان يأسها، بل وبقليل من التفاصيل، إعلان موت عملية التسوية لولا استدراكها بالدعوة للعودة مرة أخرى للمفاوضات غير المباشرة.
وهذا ما هو متوقع أن يحدث، رغم التصريحات النارية هنا وهناك بالوعيد بحل السلطة الفلسطينية، ودفع دولة الاحتلال لتحمل مسؤولية احتلالها، لكن العودة هذه المرة للمفاوضات غير المباشرة ستكون سخرية كئيبة بكل المعايير؛ فالسلطة التي اعتادت أن تذهب إلى المفاوضات في ظروف صعبة ووفق صيغ غير متكافئة، ستجد نفسها المرة القادمة مرة فوق الطاولة؛ أي ستكون موضوع التفاوض، ومرة أخرى تحت الطاولة تمرر الصيغ التي تبحث عنها إسرائيل لكتابة نهاية القضية الفلسطينة؛ بمعنى أن السلطة الفلسطينية لن تجد لها مكانا في أي مفاوضات قادمة.
إسرائيل كسبت معركة الاستيطان وهي ماضية من دون هوادة في تنفيذ مخططاتها التاريخية التي تعني عمليا تصفية الأرض موضوع الصراع، وإسرائيل كسبت المعركة داخل الولايات المتحدة بعد أن صورت دعايتها عهد الرئيس أوباما بأنه انقلاب سياسي لصالح العرب، وكسبت أغلبية جمهورية في مجلس النواب، وازدادت مراكز وجماعات نفوذها قوة وتأثيرا، وإسرائيل تسن سلسلة من التشريعات التي تقود إلى التأسيس القانوني لمرحلة التصفية النهائية للقضية، مثل قانون القدس عاصمة أبدية لإسرائيل وقانون الولاء ويهودية الدولة.
في هذه الأجواء تزدهر قنوات الاتصالات السرية، وتزداد احتمالات الصفقات التي ترتب بعيدا، الأجواء قد تشبه في بعض تفاصيلها الأيام السابقة على صفقة أوسلو، ولكنها لا تحمل نفس المركب التاريخي الذي قاد إلى أوسلو حيث ينتهي عمليا هذا المسار بخسارات فادحة، مصحوبة بيأس من المحتمل أن يفاجئ العالم بصفقة أقل بكثير من الرهانات الخاسرة السابقة، ما سيقود للصفحة الأخرى من سيناريو الحل الإسرائيلي؛ أي الفوضى، حيث يجد العالم حينها أنه لا بد من تدخل جراحي عميق من قبل الإسرائيليين أو تدخل وقائي إقليمي.
ما الذي يدفع نحو التفكير باحتمالية العمل السري وفق منطق الصفقات وتفاهمات اللحظة الأخيرة، ثمة متغيران متناقضان أولهما حالة الإحباط السياسي والشعور باللاجدوى المصحوب بحالة من قلة الحيلة والقدرة التي ترسخت لدى السلطة الفلسطينية، وهي حالة مصحوبة بحرج سياسي ورغبة في الانفكاك لدى النظام الرسمي العربي، يحدث هذا الانحدار الدراماتيكي وسط منحدر وعر مع ازدياد صلابة الموقف الإسرائيلي وقوته، بينما تزداد المؤشرات يوما بعد يوم بأن إسرائيل تنفذ رؤيتها على الأرض، فيما تؤكد كل المعطيات أن المجتمع والدولة يذهبان معا نحو اليمين والمزيد من التطرف.
العامل الثاني المربك أيضا يبدو أنه في مقابل التعنت الإسرائيلي والضعف والإفلاس الأميركي، تبرز بين وقت وآخر محاولات إغراء سياسي من أطراف دولية، كما هو الحال في احتمال إعلان عدد من الدول الغربية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، وكل هذه التحولات توفر بيئة متناقضة ومشوشة ولكنها مغرية للصفقات وللعمل السياسي السري.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد