تحولت الهدنة إلى مطلب سعت إليه حماس وهي تزف بشراه إلى شعب غزّة بكل حماس بوصفه مكسبا كبيرا سيوفر الدم والدمار على الفلسطينيين وينهي الحصار ويفتح المعابر. ونحن أيضا سعداء ونعتبر الهدنة مكسبا لنفس الاعتبارات مع أننا نجهل ما هي الشروط والترتيبات التي تمخضت عن المفاوضات الصعبة والطويلة بوساطة مصرية سوى الالتزام التام بوقف النار وجميع الأنشطة العسكرية. فالمعابر مثلا ليس واضحا كيف ستدار وتحت إشراف من؟! وليس واضحا مصير الحصار وحركة الأشخاص السلع وتزويد القطاع بالكهرباء والماء.. إلخ.
مهما يكن فالوضع سيكون أفضل الآن بالنسبة لأبناء غزّة حيث لا تملك إسرائيل المبررات لاستمرار الحصار والتضييق ويمكن تنظيم الدعم والمساعدات الدولية للقطاع المنكوب وإعادة اعمار المرافق والمؤسسات.
بالمقابل ستكون حماس ملزمة بممارسة الضبط الحديدي للنشاط العسكري من قبل أية مجموعات تحاول التخريب على الهدنة أي لعب نفس الدور الذي كانت تلعبه السلطة الفلسطينية إزاء نشاط حماس العسكري في الماضي، و لا بدّ أن حماس الآن تفهم معنى هذا الالتزام وستنظر بضيق عظيم إلى أي محاولة للتمرد على التزامها بالهدنة وسترى فيه عملا خاطئا ومتطرفا وغبيا، إن لم يكن مشبوها وتآمريا.
الهدنة ستكون قابلة للتجديد طبعا وحماس ستحاول إثبات قدرتها على تنفيذ التزاماتها، فبماذا سيختلف والحالة هذه الموقف العملي لحماس عن موقف فتح والسلطة الفلسطينية؟ وما الفرق بين هذا الخيار الآن أو قبل عقد من الزمان حين كانت حماس تشعل الساحة بعملياتها الاستشهادية ثم لاحقا بصواريخ القسام؟! كل ما حدث أن الشعب الفلسطيني دفع ثمنا مرعبا في ظلّ الاختلال الفادح في موازين القوى العسكري الذي تدهور أيضا على المستوى السياسي والأخلاقي بفقدان القضية الفلسطينية مركزيتها وتراجع التعاطف معها ووضع المقاومة في سلّة واحدة مع الإرهاب بسبب تشابه الأساليب بالتفجيرات الانتحارية في المناطق المدنية التي استخدمتها إسرائيل مبرراً لبناء الجدار الذي استهدف في الواقع رسم حدود المعازل الفلسطينية, لكنّ إسرائيل استطاعت أن تفاخر وتثبت أنه أوقفت تقريبا تسلل الانتحاريين.
ربما طوّرت حماس قناعاتها بعد تجربة دموية مرعبة لها وللشعب الفلسطيني، وربما تستطيع الآن بنظرة إلى الخلف أن ترى الفرق بين انتفاضة الحجارة الأولى التي أثارت إعجاب العالم وتعاطفه ورسمت صورة إنسانية مشرقة للفلسطينيين وبين الانتفاضة الثانية بعد عسكرتها وتحييد جمهورها بالتحول إلى التفجيرات الانتحارية التي حيدت العالم كله أيضا وخلطت أوراق النضال الفلسطيني الأكثر نبلا بقضايا الإرهاب والقاعدة وخصوصا بعد 11 أيلول.
الفرق الوحيد بين الزمنين أن حماس أصبحت في السلطة فقط. ولا نعيب على حماس خيارها الراهن فنحن ندعم بكلّ قوّة خيار الهدنة لكن وجب علينا التذكير أن هذا الخيار كان صحيحا أيضا في السابق بل كان قد أصبح مصيريا بعد تفجيرات القاعدة في 11 أيلول 2001. ويجب علينا الآن أن نسأل ماذا بعد الهدنة؟ فالشعب الفلسطيني لم يحقق أيا من أهدافه, واستبعاد أسلوب التحدّي العسكري هو استبعاد لشكل معين غير واقعي من أساليب النضال فقط ، وبخيار حماس الحالي لا عذر لها في إدارة الظهر لبرنامج مشترك للنضال مع بقية الفصائل، ولا عذر لبقاء الانقسام بين سلطتين في غزّة ورام الله ولا عذر لرفض تجديد شرعية المؤسسات التمثيلية الفلسطينية عبر انتخابات رئاسية وتشريعية على كل الأرض الفلسطينية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جميل النمري