منذ استيقظ العرب على موتهم الحضاري في القرن التاسع عشر واكتشفوا حجم تأخرهم، سادت المشاريع الطارئة للنهضة الموهومة بالاتكاء على روابط هشة ومتعبة، ونوايا مؤجلة لأزمنة الآخرين تارة وأزمنة الذات الماضية تارة أخرى. ولا بد من استذكار الشعارات التي وضعها كل من قادة النهضة اليابانية، وقادة النهضة المصريّة، إذ تزامنا بالشروع في دخول التاريخ، فدخل اليابانيون التاريخ وخرج المصريون من الأبواب الأمامية. الإمبراطور الياباني "مايجي" كان شعاره الذي شيد على أساسه النهضة اليابانية "الحقوا الغرب وتجاوزوه". فيما حاول قائد مشروع النهضة المصريّة الطارئة تشييد مشروعه على شعار يقول: "مصر قطعة من أوروبا". الأول شيّد مشروعه على قدرات الذات وبناء علاقات ندية مع العالم تأخذ كما تعطي، وتتقدم نحو جذور الحداثة في تجربة الذات، بينما راح الآخر إلى بناء علاقات مريبة ونفي متواصل للكينونة، وغفلة دائمة عن القاعدة الاجتماعية الممعنة في الموات والفوات.
حينما أعلن الخديوي الطارئ "إسماعيل" أن مصر جزء من أوروبا، احتاج الكثير من المثقفين إلى عشرات الأعوام كي يكفوا عن الصراخ خلفه، في الوقت الذي حاولت فيه بيوت المال والحكومات الغربية أن تجعل من تلك المقولة معولاً ثقافياً ذا بال في أوساط المثقفين المصريين. وحينما حاول أحد رواد الفكر الإصلاحي المختلف حوله خير الدين التونسي أن يسدي النصائح المتتالية لفرنجة تونس لعب الاقتصاد والمساعدات الفرنسية الدور الأكبر لترجمة نواياه، ليس في البنى التحتية وفي حياة الناس ومعاشهم، بل في مغازلة المثقفين. ويتكرر الأمر هنا وهناك لمشاريع طارئة تروي أجزاء من سيرة الموتى الذين عجزوا عن إنتاج تاريخهم بذاتهم، هذه خلاصة تونس الجديدة ومصر القادمة.
إلى الأمس القريب كان المشهد الممل يتكرر ويورث الخيبة: أسياد وعبيد على مرأى الألف الثالثة، إماء وجوار جدد، باعة تفاريق وسماسرة ووكلاء فاسدون، بقايا قادة عسكر مهزومون، مهمشون وزهاد ومتصوفة ويأس من التاريخ. في المقابل: السوط والنار، الخازوق والتحريق بالجمر، العصر والشنق، حبس الدم وإزهاق العقل، السجن والمنفى، ضرب الأعناق وبتر الأطراف. وفي التفاعل الجماعي: الغزو والاقتتال، الهجرات والترحال، الفتن والاغتيالات، النهب والتدمير، التهميش والدونية، ومن قبل التهم الجاهزة، التكفير، الإعدام المعنوي، المراباة بالناس، ومن بعد العزلة والخلوة عن التاريخ.
إن حركة التغيير والبحث عن تاريخ في تدفق الزمن لم تتوقف في تلك الأزمنة، لكنها كانت دوماً تنتكس بالخيبة، ما أسس ظاهرة اليأس من التاريخ. هل يعود التاريخ مرة أخرى ويدق أبواب هذا الشرق العربي بقوة؟ هل يأتي التاريخ من جديد من دون آباء ولا منظرين ولا سدنة ولا معبد؟ هل نتصور أن يصنع التاريخ ويعاد اكتشاف الحياة بعفوية وتلقائية كما توصف الحركات الاحتجاجية التي يقودها الشباب العربي الجديد؟ أسئلة برسم ان يجيب عنها اليوم التالي.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد