حان الوقت الذي يجب أن نطور فيه مفهوم "بيئة الفساد"، وأدوات رصدها ومتابعتها وكشفها وعيا وممارسة. تلك البيئة التي تنتج الفساد وتسهم في التستر عليه وحمايته، البيئة التي لا تتوقف عند باعة أغذية الأطفال الفاسدة، وباعة اللحوم والأسماك الجوالين في أحياء عمان الفقيرة وفي القرى البعيدة على حد سواء، كما أنها لا تتوقف فقط على الفساد في المشاريع الكبرى. فهذه الوقائع نتاج بيئة رخوة تروض المجتمع والمؤسسات بالصمت على الفساد وتبريره، وتجعل من فاسدين أقلية صارخة صوتها أعلى من الجميع أحيانا، وفعلها قابل للتأويل والتبرير كيفما تشاء، وهذا ما يتطلب من ناحية مؤسسية الحاجة الماسة لاستقلالية هيئة مكافحة الفساد، وأن تكون علاقتها مباشرة مع القضاء.
في الوقت الذي تزدحم فيه خطاباتنا المحلية بالحديث عن ثقافة الجودة وسُبل ترسيخها في التعليم والخدمات والصحة والبنى التحتية وغير ذلك، تزداد المؤشرات الكيفية الدالة على تراجع جودة الحياة بشكل عام. أليس الهدف المركزي لسياسات التنمية والتغيير هو نوعية الحياة؟ أي حياة معافاة طويلة كريمة من دون مصادر تهديد يومية ترفع سقف التوقعات السلبية بالأخطار لقواعد عريضة من المجتمع؛ فكل أولئك الذين يذهب أطفالهم كل صباح إلى المدارس، وكل أولئك الذين يضطرون إلى تناول وجباتهم في المطاعم العامة، وكل الناس الذين يشربون من الشبكة العامة للمياه، كل أولئك أصبح لديهم سقف التوقعات السلبية مرتفعا نحو تعرضهم لتهديدات تنال نوعية الحياة في كل لحظة.
شهدت السنوات الأخيرة زيادة قسرية في عدد السكان بسبب الظروف الإقليمية المحيطة، ما زاد بشكل واضح من الضغط على الموارد المحدودة التي لم تشهد نموا حقيقيا يواكب حتى الزيادة الطبيعية المفترضة، ومن الضغط على البنى التحتية ومصادر استمرار الحياة، الأمر الذي أخذ يكشف بوضوح عمق الفجوة التنموية التي دفعت نحوها سياسات الاندماج السريع في العولمة الاقتصادية من دون أن يصحبها تطوير خيارات استراتيجية تنموية وطنية ذات استقلالية تحسب حساب الأجيال الراهنة قبل الأجيال القادمة التي أصبحت خياراتها المستقبلية محدودة فوق هذه الأرض، إذا ما استمرت الظروف الحالية كما هي في هذا الوقت، إذا ما أضيف إلى ذلك تداعيات الأزمة الاقتصادية والفوضى السياسية التي تضرب الإقليم. هذا السياق يوضح البيئة الجديدة للفساد في الغذاء والدواء والمياه والسكن ونوعية الحياة.
هذا الواقع ينقل الفئات العريضة من المجتمع إلى نمط من الاقتصاد السلعي القائم على سد الحاجات اليومية الأساسية من أردأ الأنواع، وتكتفي الأسر بالبحث عن سد حاجاتها اليومية بالكفاف من سلع وخدمات كانت في السابق ترفضها الأسواق، لأن معيار القدرات الشرائية عادة ما يحدد خصائص أجندة بضائع التجار. في هذا الوقت أخذت مظاهر جديدة تتعمق في سلوك السوق، أهمها افتقاد المناعة فيما يعرض للناس من سلع وخدمات تفتقد أبسط معايير الجودة، ما دام هناك من يقبل عليها تحت وطأة الأسعار وزيادة الطلب والبحث عن سيولة.
الخلاصة؛ أن الأخطر من الفساد والفاسدين وبضائعهم هو بيئة الفساد التي توفر مساحات رخوة داخل المجتمع والمؤسسات، بالتبرير والتستر والخوف أيضا.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد