تحت سمع وبصر الجميع يتداعى المشروع الوطني الفلسطيني، والمشاهد الأخيرة من غزّة تتجاوز ما كانت تقدر عليه أكثر الخيالات تشاؤما. وإن المرء ليشيح بوجهه خجلا أمام صورة المقاتلين شبه العراة على جانبي الحدود تحت بنادق حماس وبنادق الإسرائيليين، ولن نذهب ابعد في التعليق على الأحداث فما رأيناه ابلغ من كل تعليق، أما ما سمعناه في التصريحات "الحماسية" فليس فيه أي نبرة أسى أو أسف أو حرج.
لبعض الوقت راهنّا على أن حماس ستكتشف أن سلطتها في غزّة أمام طريق مسدود وهي غير قابلة للحياة، بيد اننا قد لا نكون اخذنا في الاعتبار ما راهنت عليه حسابات حماس للمضي قدما بلا تردد نحو فرض سلطة شبه فاشية أو طالبانية في غزّة.
الرهان الضمني الأول هو المصلحة الإسرائيلية في إدامة سلطة حماس المستقلّة في غزّة. اسرائيل ليست متضررة ابدا فحماس ستضمن الأمن، وحتى لو صحّ الحديث عن العلاقة مع ايران توجيها وتمويلا فالتفاهمات الإقليمية تضمن الالتزام الحديدي بالأمن, ولو كانت ايران نفسها على حدود اسرائيل لما كانت جبهتها أقلّ صرامة أمنيا مما هو الحال على جبهة الجولان، والأمر الواقع القائم يؤجّل الى أمد غير منظور كل مسؤولية اسرائيلية تجاه الحلّ السياسي. وبما أن مشروع السلام كان اصلا في مأزق ويضع العرب في حرج شديد فإن المأزق الداخلي الفلسطيني يعفي العرب وأولهم الجار المصري من المسؤولية وستتغير الأولويات للتعامل مع الوضع القائم وفي النهاية سيكون ضروريا فتح المعابر مع مصر مقابل اغلاقها أو تضييقها مع اسرائيل في تعزيز اضافي للفصل بين جناحي الوطن الفلسطيني، أما على صعيد المجتمع الدولي الذي طالما اثقلت ضميره الجمعي الحقوق الفلسطينية، حق العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة، فكل شيء سيغرق في مستنقع آسن صنعته المشاهد الأخيرة ويديمه وجود سلطة منبوذة في غزّة. قلنا سلطة منبوذة؟.. نعم, لكن مرغوبة ومقبولة، هذا ما سيكون عليه الموقف وما قد تكون حماس راهنت عليه ضمنا.
ليس هذا تكييفا للتحليل لإدانة حماس، وبالنسبة لنا فإن فتح تسبق مسؤوليتُها حماس حين فشلت في بناء سلطة محترمة يستحقها النضال والتضحيات وتكسب القوّة الاخلاقية أمام العالم، لكن حماس كمّلت الكارثة بمناهضة مشروع السلام لكي يكون البديل لا شيء بل مزيد من الدم والدمار والتضحيات ثم تبديد الأمل الفلسطيني.
من بين الجميع فإن الأردن وحده الى جانب الفلسطينيين هو الذي سيدفع ثمنا مباشرا لهذا الفشل لأنه كما تلي الألف الباء يلي الخيار الأردني و"الوطن البديل" الفشل الفلسطيني، ولذلك فإن الأمن والمصلحة والمستقبل بالنسبة للأردن يتمثل في التصدّي بكل عزيمة لهذا الانقسام المدمّر. وليس كافيا الدعوات الضعيفة والمحايدة للحوار، يجب الدعوة الى لقاء عربي يضع قرارات حاسمة وواضحة تمثل الحلّ الذي يجب فرضه على الساحة الفلسطينية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جميل النمري