أي شيء أضيف إلى كل ما كُتب وسيُكتب اليوم عن محمود درويش وفي وداعه؟ أي شيء أضيف إلى ما سيقوله مئات المثقفين والنقاد والأدباء رفيعي الشأن؟ لا، ليس هذا هو الموضوع. سأكتب كحق خاص في أن ألوح بمنديل الوداع لهذا الحبيب.
في القلب حزن وأسى، لكن ليس فيه غصّة، فقد أكمل الرجل كل ما يمكن، وأعمق ما يمكن، وأجمل ما يمكن أن يكتب، عن الأوديسيا الفلسطينية، عن المقاومة ومحطّاتها التراجيدية، عن الشتات والرحيل الأبدي، وأخيرا عن الإياب الغريب إلى وطن لم يكن هو ما عشعشت أسطورته في الخيال، ومن غير درويش كان يستطيع تسطير تلك المفارقة الرهيبة، نعني استمرار الاغتراب في قلب الوطن بعد عقود الاغتراب خارجه، دراما عودة بددت حلم العودة ووطن بدد أسطورة الوطن.
أتحف درويش الشعر والقرّاء والقضيّة بتأريخ تعجز عنه لغة السرد السياسية للسيرة الفلسطينية، من دولة الفاكهاني العجيبة إلى تلّ الزعتر إلى الخروج من بيروت و مذبحة صبرا وشتيلا والتيه الجديد في المنافي والعواصم، سطّر درويش كل المحطّات والمنعطفات مزودا ذاكرة التاريخ بما لا يستطيع النثر أن ينقله من أجواء حفظها لنا درويش في نصوص شعرية مخلدة.
 أي شاعر استحقته القضية! وأي قضية استحقها الشاعر! من شدّة هذا التوحد بين ذروتين، الذروة درويش والذروة فلسطين، ولدت قضية بذاتها بين النقاد. ولم يألُ درويش جهدا للتفلت ولو قليلا من هذا العناق. من اجل قضية الإبداع لذاتها. كم حاول أن يقول لمستمعيه خذوني قليلا وحدي. كم حاول أن يفلّ بلغته خارج القفص المكرس منذ "سجّل أنا عربي" و"وطني ليس حقيبة". ولن يلام كلما أمعن في نبذ الخطابة الشعرية – السياسية ليصعد بلغته نحو ذرى غير مسبوقة. لم يخذل القدر درويش فكتب كل ما يريد وظلّ محبوبا أبدا ونجح في شدّ ذائقة الجمهور معه إلى الأعالي. شدّ الشباب كما لم يتمكن الشعر أن يفعل أبدا. وأتاحت له عملية قلب سابقة الاقتراب من الموت ليناجيه طويلا في "جداريته". لقد أطلّ من خلف الباب إلى الردهات المعتمة ثم التفت إلى الخلف مبلغا "أعرف هذه الرؤيا .. كأنني مت قبل الآن!"
أتاحت له الحياة أن يقول كل وأفضل ما يمكن أن يقال. لم يترك لنا أن نحتاج شيئا، كم تجرعنا ما صبّه لنا درويش من كؤوس، للمراثي، للبطولات، للمآسي، للخيبات، للأشواق، للاحتراق. ثم في خطوة إضافية مذهلة أتاح له الاقتراب من الموت أن يلقي نظرة مسبقة عليه فيتكلم معه وعنه في نصّ استثنائي يهدينا أياه قبل الغوص النهائي في الغياب.
استهلك درويش رفقته مع قضيته حتى نهاية الحلم وما بعد النهاية موثقا الدرب خطوة خطوة حتى الجلوس للتأمل في معنى الحطام بعد أن لم يعد من شيء في الأمام. أنجز أعماله الكاملة ولم يبق الا حوار أخير مع الموت "أيها الموت انتظر حتّى اعدّ حقيبتي، فرشاة أسناني، وصابوني، وماكنة الحلاقة ... اجلس على الكرسي، خذ كأس النبيذ، ولا تفاوضني، فمثلك لا يفاوض ومثلي لا يعارض". ثم كأن درويش يعزينا سلفا بانتصار الموت فيقول انه انتصر على "الطيني فينا"، لكن يهزمه ما يمتدّ عنا ويحقق الخلود... "هزمتك يا موت الفنون جميعها، الأغاني في بلاد الرافدين، مسلّة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على الحجارة" ونحن نضيف شعر درويش.
 انتصر الموت على الجسد المنهك والوجه الجميل والحنجرة الرخامية، لكن كل ما أنتجه هذا الوجود العابر للجسد مخلد بالحرف والصوت والصورة، نودع درويش وسنعمل بوصيته الأخيرة "... امشوا صامتين معي على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي، ولا تضعوا على قبري البنفسج فهو زهر المحبطين يذكّر الموتى بموت الحبّ قبل أوانه ...".

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جميل النمري