يحدث لدينا في ملف الفقر، أكثر الملفات إثارة للقلق والحساسية، كما يحدث في السياسة الإقليمية، وكأنه قد تم استيراد المنهج والأدوات. يبدو ذلك في أن الحكومات، منذ مطلع التسعينيات، مارست إدارة ملف الفقر ولم تحاول تطوير حلول واقعية له، وثمة فرق كبير بين إدارة ظاهرة ما وبين العمل على حلها.
هذا ما يثبته استمرار معدلات الفقر في التصاعد، أو التراجع الطفيف ثم العودة للصعود من جديد، من دون أن تحدث إزاحة حقيقية في حياة الناس ومعاشهم، بينما يبدو أن هذه الظاهرة في اللحظة الراهنة باتت تفلت من نطاق منهجية الإدارة السابقة، بعد أن أصبحت الأرقام تتحدث عن زيادة في معدلات الفقر خلال آخر عامين من 2-6 %، مع ظهور فقراء جدد لا خبرة لهم بهذا العالم ومعاناته، ولا أحد يدري إلى هذا اليوم كيف ستكون ردود أفعالهم على الوقائع الجديدة من حولهم.
النتيجة أن منهجية التعامل الرسمي مع الفقر خلال العشرين سنة الماضية وفرت السبل لإدارة هذه الظاهرة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، ولم تحاول حلها، أو فتح الطريق أمام حلها، حيث توجد اليوم على الأرض 55 مؤسسة وجهة رسمية أو شبه رسمية ومنظمة أهلية كبيرة تعمل في مجال إدارة الفقر تحت مسمى برامج مكافحة الفقر، أو القروض والتأهيل وما شابه ذلك، وأصبحنا أمام بيروقراطية كبيرة وواسعة من أجهزة ومؤسسات عددها ضعف عدد الوزارات، ويتجاوز عدد الهيئات العامة المستقلة، كلها مكلفة بإدارة الفقر.
لم تتطور طريقة التعامل مع هذا الملف الوطني الذي أنتجته عملية الهيكلة الاقتصادية وما أحدثته من تحولات اجتماعية قاسية طوال عقدين، ولم نتقدم في مسألة مكافحة الفقر والنظرة الرسمية إليها من مسألة رعاية إلى مسألة حقوقية بالدرجة الأولى، لأن الفقر يكمن في الأساس في مشكلة العمل، حيث إن أكثر من 40 % من الأسر الفقيرة في الأردن يرأسها أفراد عاطلون عن العمل، ونحو 57 % من الأسر الفقيرة يرأسها أفراد مستخدمون بدخول متدنية. وبالتالي، تأخذ المشكلة بعدها السياسي في صناعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي القدرات التوزيعية وعدالتها.
قبل التسعينيات لم يكن الأردن يعرف دراسات الفقر التي جاءت مع إعادة الهيكلة الاقتصادية. وبشكل دقيق، تعود أول دراسة لتحديد جيوب الفقر إلى العام 1989. ومنذ ذلك الحين ونحن نحمل الملف ونديره وندور فيه حتى أصابنا الدوار؛ مرة تصبح جيوب الفقر 23 جيبا، ثم 20 جيبا، ثم 40 جيبا.. وهكذا موزعة بالتراضي بين أقاليم المملكة! ومرة نخرج هذه المناطق ونضيف أخرى، من دون تحقق فعلي من تحسن في نوعية الحياة وفي القدرات. ومنذ أن أخذت شركات الاستشارات والدراسات بتقديم هذا "البزنس"، بدأت تتم هذه المسوحات على الهاتف في أغلب الأحيان، بينما تدار جهود المكافحة بواسطة العلاقات العامة والإعلام.
لم نصل إلى تقييم أثر علمي وموضوعي حول جدوى عشرات صناديق القروض والمنح الصغيرة، ولم تخرج لنا بحوث جادة تبين أين تكمن الحلقة المفقودة، وأين تذهب جهود شركات دراسات الجدوى التي تؤجرها وزارة التخطيط منذ سنوات، وكل يوم تجلدنا في الصحف أنها أنجزت مئات الدراسات لمشاريع صغيرة ومتوسطة في المحافظة الفلانية، وقدمت مئات الفرص التدريبية في المحافظة العلانية!
ولو أن باحثا متابعا قام برصد ما تطرحه تلك المؤسسات والشركات عبر وسائل الإعلام من إنجازات في مجال تقديم القروض والمنح ودراسات الجدوى والتدريب، وكلها ممولة محليا أو دوليا أو بأموال القروض، فربما يصل إلى نتيجة نظرية تؤهلنا أن نكون دولة راعية للتنمية في العالم لا دولة متلقية للمنح والقروض. ربما حان الوقت لتسييس ملف الفقر وتحويله إلى ملف سياسي من الدرجة الأولى، فهناك توجد الإجابة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد