ثمة علاقة وجدانية كبيرة تربطني بالمتصوف الشهير أبو منصور الحلاج والدافع وراء تلك العلاقة هو رائعة الشاعر والمسرحي المصري الراحل صلاح عبد الصبور "مأساة الحلاج" التي استطاع من خلالها بلغة رفيعة تنم عن حسن إنساني مرهف أن يجسد عمق المأساة التي تعرض لها الصوفي الكبير "الحلاج" الذي جسده عبد الصبور في نص مسرحي ينطق بكل مفردات الحب الصوفي للذات اللاهية، نعم إنها "مأساة الحلاج" التي تتكرر في كل يوم على مذبح الإبداع عندنا وعند غيرنا في عالمنا العربي، والذابح فيها دوائر المطبوعات والنشر.
وعلى الرغم من أن المؤرخين ومن لف لفيفهم من الفقهاء لم ينصفوا الحلاج واجمع اغلبهم على كفره وزندقته، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنْ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ : أَنَا اللَّهُ . وَقَوْلِهِ : إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ . . . وَالْحَلاجُ كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الآلِهَةِ : فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ".
ولكن يبقى السؤال اللغة مشرعا هل كان الحلاج بالصورة التي تناولها المؤرخون والفقهاء؟ أم أن اللغة في ذاتها ككيان يحتوي المعرفة تتطور بذاتها ولذاتها؟..
يفيد المشتغلون بفقه اللغة أن اللغة في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، أخذت تطفو كمشكلة على السطح الثقافي في ذلك العصر ومبعث هذا الإشكال في تطور لغة التصوف!
فقد تعمَّقت الأحوال الصوفية ودقَّت المعانى وتفرَّدت، فلم يعد بإمكان اللغة العادية أن تصوِّر الدقائق الصوفية التي يودُّ أهل الطريق البوح بها. وتفاقم ذلك الإشكال التعبيري، حتى صار بمثابة أزمة تبدَّت في شطحات أبى يزيد البسطامى (المتوفى 261 هجرية) التي اشتهرت بين الصوفية أنها: عبارات غريبة، ظاهرها مستشفع وباطنها صحيحٌ مستقيم، وهو تعريف أبى نصر السَّرَّاج الطوسي، الذي نقل فى كتابه الشهير (اللمع فى التصوف) العديد من شطحات البسطامي أو عباراته الغريبة / المستشنعة/ الصحيحة ، مثل قول أبي يزيد :
أَشْرَفْتُ عَلَى مَيْدَانِ اللَّيْسِيَّةِ، فَمَا زِلْتُ أَطِيرُ فِيهِ عَشْرَ سِنينَ، حَتَّى صِرْتُ مِنْ لَيْسَ فى لَيْسَ بِلَيْسَ، ثُمَّ أَشرَفتُ على التضييعِ، حَتَّى ضِعْتُ فىِ الضَّيَاعِ ضَيَاعاً، وضَعْتُ ، فِضِعتُ عَنِ التَّضْييع بليْسَ، في لَيْسَ، في ضَيَاعَةِ التضْييعِ، ثُمَّ أشرَفتُ عَلَى التوحِيدِ، فىِ غَيْبُوبَةِ الخَلقِ عَنِ العَارفِ، وغيْبوبَةِ العارِفِ عن الخلْقِ.
والمتأمل فى العبارة، يلمح على الفور ما تشتمل عليه من وُعورةٍ لغوية تشي بتلك الأزمة التعبيرية التى عانى منها الصوفية منذ زمن البسطامى.. بل قبل البسطامى بفترة، وهو الأمر الذي لاحظه د. عبد الرحمن بدوي فى بعض الآثار المروية عن رابعة العدوية، من نوع قولها عن الكعبة الشريفة لما حَجَّت إليها: هَذا الصَّنَمُ المَعْبُودُ في الأَرْضِ ، وإِنهُ مَا وَلَجَهُ اللهُ ولاَ خلاَ منْهُ .
ويمثل الحلاَّج مرحلة متقدمة من مراحل أزمة اللغة عند الصوفية، كما يمثل التضحية الكبرى التي قدَّمها الصوفية، في طريقهم نحو إقرار القاموس الصوفي الخاص.. فقد قدَّم الحلاَّج حياته ثمناً لمحاولته التعبير عن الأحوال التي، يعاينها ويعانيها، مثلما عاينها وعاناها معاصروه من رجال التصوف. فها هو أبو بكر الشبلى (رفيق الحلاج) يشطح بعبارات لا تقل وُعورة وخطورة عما شطح به الحلاج ، لكنه حين واجهوه بها، ادَّعى الجنون ودخل البيمارستان ! فعاش بعد مصرع الحلاج إحدى عشرة سنة (توفى سنة 320). وكان يقول: "أنا والحلاج شيء واحد، فأهلكه عقله وخلصني جنوني"، ينتهي هنا الاقتباس الذي يحدد طبيعة تطور اللغة الصوفية وأنه بحق لم يستطع معاصروها في تلك الفترة تحقيق المعاني التي كانت تدفع هؤلاء المتصوفة إلى  الشطوح في فضاء اللغة الرحب.
ما علاقتنا، نحن أبناء القرن الخامس عشر للهجرة، بمشكلة أن اللغة في القرنين الثالث والثاني الهجري لم تفهم؟ وأين يقف الإبداع في محطة فقه اللغة وغياب التفكيك المعرفي للمفردات الإبداعية التي تتداول على لسان بعض الشعراء والأدباء المعاصرين؟ وهل محاكم الفقه اليوم تم الاستعاضة عنها بدوائر المطبوعات والنشر وترك المجال للرقيب أن يفسر المفردات التي يتبعها بعينيه بعيدا عن عقله ويصادر الإبداع وصياغة مفردات تعبر عن حالة كاتبها بحجة أنها لا تتفق والتعليمات، التي لا تتابع بعين الناقد المتمرس لمكنونات النفس واللغة؟
وعليه فقد تمت المصادرة والمنع من التداول في الأسواق في الآونة الأخيرة لمجموعتين شعريتين الأولى للصديق الشاعر المبدع زياد العناني والثانية للطاهر رياض، وكاد الأمر  يصل إلى ابعد من ذلك بأن يدّعي زياد العناني بالجنون كسابقه ابو بكر الشبلي، ووافق مع دائرة المطبوعات والنشر على المصادرة ومنع ديوانه من التداول في الأسواق، ودعوى الجنون التي تكبدها العناني لم تؤد به إلى بيمارستان الفحيص بل، دفعته إلى التخلي عن ديوانه الشعري وإعادة تصديره لبيروت!
بالضرورة، إن سياقات الفهم المدرسي للغة هي التي تعطل الإبداع وتجعل من الرقابة قصة وحكاية بحاجة إلى نبش في ذات من يقوم عليها لتوسيع مفردات اللغة عندهم وفهمها بسياقها الروحي والمعرفي وليس الحرفي الأبجدي الذي يتبع التسلسل الألف بائي في كشف مكنونات اللغة التي تتقدم منذ أيام الشطح الصوفي الأول.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جهاد المحيسن