من حق بعض الأطراف أن لا تأخذ جولة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي انتهت في عمان، ووصفت بالاستكشافية، على محمل الجد، وأن لا تعتد بنتائج منتظرة لها، إذا ما أخذنا بالاعتبار العملي أن التفاوض في ساحة تعاني من فراغ سياسي على الأرض لا يحمل أي قيمة سياسية أو وزن استراتيجي.
فالقيمة الحقيقية لتلك الجولات تبدو في حجم الصدمة السياسية التي حان الوقت أن تنقلها الدبلوماسية الفلسطينية إلى الرأي العام الفلسطيني والعربي بكل وضوح وبشكل صادم، حيث لا تعبر تلك الجولات عن شيء أكثر من الالتماع الشديد قبيل الانطفاء الذي سوف يغلق أبواب الشرق الأوسط. وحجم الصدمة السياسية أكبر من قصة الأفق السياسي المغلق، وتحتاج صدمة فلسطينية، أي ربيع فلسطيني يشكل الصدمة المقابلة؛ فالمنطقة بحاجة إلى نمط آخر من السيولة السياسية والاستراتيجية التي لا تعبر عنها عناوين التفاعلات الراهنة.
ستمضي الأشهر المقبلة في ممر أسوأ من الشهور الماضية، في الوقت الذي سوف تنشغل فيه الإدارة الأميركية بالانتخابات المقبلة، والتي تعني عمليا المزيد من تقديم التنازلات للضغوط اليمينية الأميركية والصهيونية، فيما يتحول رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الحاكم الأوحد والمهيمن، وتزداد تحالفاته المتطرفة قوة بدون منافسة أو معارضة حقيقية وهو أمام ولاية ثالثة أكيدة.
"الإدراك المتبادل" في السياسة علم وفن وخبرة، يتطور مع التجارب والمراس، وهو أساس تقدير المواقف في التفاعلات الصراعية والتعاونية بين الدول والتنظيمات. وقد عانت القضية الفلسطينية من سوء إدراك الفاعلين السياسيين العرب والفلسطينيين عبر مراحلها المختلفة، فوقعت الأطراف الفلسطينية في سوء الإدراك في أكثر مراحل الصراع حساسية. وتتحمل المسؤولية جميع الفصائل، بما فيها "حماس" التي ما تزال تخلط بين ذهنية المقاومة وأوراق السياسة، بل وإدراك الآخر الفلسطيني، فيما قدمت حركة التحرير الوطني "فتح" نماذج شهيرة في سوء الإدراك وتقدير الموقف.
وسبق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن قادت الاتجاه المعاند لمبادرة "روجرز" في عهد عبدالناصر، وسارت "فتح" في الاتجاه نفسه أمام مبادرات السادات أواخر السبعينيات، واستمر ذلك مع أوسلو وصولا إلى سلوك السلطة الوطنية.
للأسف، كان الإدراك متواضعاً ولم يرتق إلى مستوى حسابات حركات المقاومة في القرن العشرين التي لم تبن حساباتها على حسن نوايا الديمقراطية للدول الكبرى، ولا على الثقة المفرطة بالحسم بأدوات المعركة التقليدية.
المشكلة حالياً أن لا تتكرر حالة سوء الإدراك الداخلي في محددات وشروط الأطراف الفلسطينية المطروحة، ومدى قدرتها على الالتقاء على الحد الأدنى من الاتفاق على برنامج وطني مشترك، ومدى قدرة هذه الأطراف على الانخراط في استراتيجية مشتركة ذات أهداف واحدة، أي استراتيجية الصدمة؛ فلا مجال أمام هذا الواقع إلا الصدمة.
الشارع العربي، وإلى حد ما النخب العربية، كان يبدي في داخله تعاطفاً وانحيازا مع "حماس" ليس حبا في نهجها، بل بسبب ما ناله من إحباط بفعل سياسات "فتح" وما تورطت فيه من فساد سياسي ومالي وإداري وصراعات خلال عمر السلطة العتيدة. ولكن حكومة حماس حينما تباركت هي الأخرى بالصراعات، جعلت وجه هذه الجماهير، وأولها الفلسطينية، إلى الحائط. لم يبق لأحد عذر بالمطالبة بالحد الأدنى من إدراك حقائق العالم، وأبسطها أن هذا العالم لا يعترف إلا بالمصالح وبإدراك حدود الملعب وشروطه، وقبل ذلك أوقات اللعب، وأن لا نذهب إلى هناك في الوقت الذي ذهب فيه الآخرون إلى الراحة، ونكتشف أننا نلعب وحدنا. ما نحتاج أن نكتشفه هو الصدمة، وما نحتاج أن نفعله هو الصدمة المقابلة.
بقلم: د.باسم الطويسي
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي العلوم الاجتماعية جريدة الغد