خلاصة أحداث الأسابيع الثلاثة الأخيرة تقود إلى استنتاج مفاده تأكيد استمرار قوة زخم الحراك الشعبي الأردني، وأن دفة قيادة الحراك تعود إلى المحافظات من جديد. وفيما تأخذ الحركة الاحتجاجية المزيد من المضامين السياسية، يزداد ارتباك الأداء الرسمي في سلطات الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي يضع الجميع أمام ساعة الحقيقة التي قد تحمل مفاجآت سياسية نوعية حاشدة، أهمها مقاطعة المحافظات، وتحديداً محافظات الجنوب، للانتخابات النيابية القادمة.
هناك إدراك متنام وسط القواعد الشعبية العريضة والنخب الجديدة التي أفرزها الشارع بحالة فقدان الوزن في الحياة العامة، وأن مسار الإصلاح ومكافحة الفساد مرتبك، بينما تتنازع هذا المسار إرادات وأجندات متعددة، معظمها يتعارك على حساب برنامج الإصلاح الوطني الديمقراطي المنشود. وهذا الإدراك مصحوب بوعي نوعي يتراكم يوماً بعد يوم، ويضيف المزيد من الجرأة والقدرة على إحداث الفرق على الأرض.
لقد فعلتها المحافظات في الجنوب في انتخابات المجلس التشريعي في عهد الإمارة، احتجاجاً على التهميش وعلى الاتفاقية الأردنية-البريطانية، وذلك حينما رفض الناخبون في كل من معان والطفيلة الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وهي أول حادثة مقاطعة انتخابية في تاريخ الحياة السياسية الأردنية. لقد مارس أجداد هؤلاء الشباب السياسة في وقت مبكر من عمر الدولة.
السيناريو الأسوأ جنحت نحوه أحداث الأيام الأخيرة، كما بدت في أحداث الطفيلة وطريقة تعامل السلطات معها، وردود الفعل الرسمية غير المبررة التي زادت من التأزم وزادت من إدراك الفاعلين على الأرض بأن التغيير المنشود هم من يصنعونه على الأرض أيضاً؛ إلى جانب الطريقة التي أخرج بها الفصل الأول من قضية "الفوسفات"، والتراخي الفعلي من قبل الحكومة والبرلمان في حسم ملفات الإصلاح، وفي مقدمتها حزمة التشريعات، ما جعل بعض الأصوات يردد خلاصة مفادها "تلكؤوا وتباطؤوا وترددوا في قانون الانتخاب وغيره كما تشاؤون.. يمكن أن نصنع التغيير على الأرض بأدواتنا"؛ وهذا أسوأ ما يمكن أن تصل إليه الأمور، حينها يكون خيار المقاطعة خيارا سياسيا يقبل القسمة على الكثير من الفرقاء.
في العمق؛ تذهب التحولات في المحافظات إلى منحنى جديد، يعني حتماً تغييراً نوعياً في الخطاب والمنهج والممارسات في ضوء ضعف الاستجابة الرسمية، حيث يقف المشهد الراهن على المحددات الآتية:
أولاً: انتقال الحراك من صيغته التقليدية التي روجتها الدعاية الرسمية بأنه حراك مطالبي يرتكز على الأبعاد الاقتصادية المباشرة، إلى تعبئة هذه المطالب بتعبيرات سياسية أكثر قدرة على المناورة والاستجابة والرفض. وهذا تطور طبيعي لا يغيب إلا عمن يجهلون قراءة أبجديات خرائط حركات الاحتجاج عبر التاريخ وفي كل المجتمعات؛ فخبز الناس ومعاشهم اليوم هو صلب السياسة.
ثانيا: ازدياد الشعور العام والإدراك السياسي بأن خطاب إصلاح المشاركة والتمثيل يستهدف هذه المجتمعات، وسينال حقوقهم المكتسبة على خلفية احتمال تغيير معادلة توزيع الدوائر الانتخابية، رغم أن خطاب حراك المحافظات عادة ما ينظر إلى تلك الحقوق في الأغلب على أنها شكلية، ولم تمكن تلك المجتمعات من الحد الأدنى من الحقوق والعدالة.
ثالثا: على الرغم من الاعتراف الرسمي من كل الجهات بالتهميش التنموي الذي تعرضت له المحافظات على مدى عقود، والذي انعكس في الفجوة التنموية، فلا جديد يذكر، والفجوة تزداد اتساعا، بينما الخطوات والمشاريع التي اتخذت بهدف تقليص هذه الفجوة باءت على الأغلب بالفشل، أو تعاني من التعثر، وأحيانا تلاحقها شبهات الفساد، أو تتم إدارة الفكرة أو المشروع بطريقة تعيد تدوير أخطاء سابقة كما يحدث اليوم في طريقة عمل صندوق المحافظات.
رابعا: ازدياد الشعور بالهشاشة الاجتماعية والاستهداف أحيانا لدى المجتمعات المحلية. وهذا الخطاب ينتشر وسط النخب الجديدة التي تفسر ظواهر العنف المجتمعي بطريقتها، ولديها هواجس وأسئلة حول من يقف وراء انتشار الهويات الفرعية والمناطقية.
هذه المحددات تقود إلى استنتاج عريض بأن تحولا نوعيا في طريقه إلى النضوج كنتيجة طبيعية للتراكم باتجاه واحد. وهذا التحول سياسي في الدرجة الأولى، وأحد خياراته دعوة قطاعات مجتمعية واسعة لمقاطعة الانتخابات القادمة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد