هل تغير مفهوم الاستقرار في الشرق الأوسط بعد الربيع العربي؟ وهل تُقدم قمة بغداد الأخيرة صورة أولية عن مستقبل العمل الإقليمي العربي؟ وصولا إلى الأهم؛ هل حان الوقت للتساؤل: إلى أين تأخذ هذه التحولات الصراع المركزي في الشرق الأوسط؟
الحرص على توفر الاستقرار في الشرق الأوسط تحول مع الزمن إلى أحد مصادر التهديد. وبفعل التراكم، تحول مفهوم الاستقرار إلى أحد أنماط التضليل الاستراتيجي، حيث لا يخدم عمليا سوى مشروع واحد، هو مشروع تصفية الصراع دون دفع ثمن الصراع وكلفة التصفية ذاتها. وهو ما تفعله إسرائيل اليوم، وما تؤول إليه نتائج الحماسة الأميركية الأخيرة.
وبهذه النتيجة، يتأكد أمام الجميع أن فكرة الاستقرار في الشرق الأوسط لا تخدم سوى مشروع التصفية وليس مشروع التسوية، وأن فكرة الاستقرار يتم في هذا الوقت اختطافها لمصلحة نهج التصفية التاريخي، وأن مسألة وصول هذا الخبر إلى قناعة المجتمعات ووعيها ما هي إلا مسألة وقت.
تكتشف المجتمعات العربية والإسلامية كل يوم حجم الفوات والتأخر وخسارة المستقبل بفعل احتلال حقل السياسة لكل حقول الحياة الأخرى في فترة الاستقرار الهش، ما خلق حالة من الانشغال المرضي عبر ستة عقود من الهدر، تم خلالها ليّ عنق الحياة في هذا الجزء من العالم نحو الصراع الدائم المغطى بقشرة من الاستقرار الهش، الأمر الذي وفر بيئة أخرى ازدهر فيها التحايل والفساد وتشويه الوعي وانحطاط محتوى التفكير. هذه المجتمعات التي أصغت لكلمات الرئيس باراك أوباما في جامعة القاهرة، وصدقتها لبعض الوقت، تحمل حساسية كامنة ومدفونة في الأعماق، يصعب عليها تحمل جرح نرجسي جديد بعد كل هذه الثورات والحراكات التي أدهشت العالم.
لم تشهد المنطقة منذ العام 1967 حالة من الرهانات السياسية الغامضة كالتي نشهدها هذه الأيام. فاحتمالات الحرب والسلام مطلقة، ويتوفر لكل منها الحجة والنصيب بنفس القدر. فالحرب الشاملة التي قد نراها أبعد ما تكون، هي في الوقت نفسه قريبة جداً، وفي الحقيقة لم تتوقف، وكذلك السلام! فقد بات اللاعبون الإقليميون فاقدين للبوصلة والدليل أكثر من أي وقت مضى منذ قرابة أربعة عقود لم يتوقف خلالها جدل المبادرات والمحاججات السياسية. المفارقة الكبرى التي قد تأتي من حيث لا يحتسب أحد هي أن فجوة الاستقرار الراهنة، وعملية التضليل الاستراتيجي الراهنة، والجلوس مع أشرار الأمس القريب والتحالف معهم، قد تدخل هذه المجتمعات في موجة تطرف جديدة لا يعلم إلا الله نتائجها.
الفراغ السياسي الراهن يعني عدم قدرة الأطراف الإقليمية والدولية، وعدم نضوج إرادتها لإجراء جراحات عاجلة وجذرية لمشاكل الإقليم، وتحمل آلامها، بعد أن بات من الواضح أين تكمن جذور كل هذه التعقيدات. الرهانات المتباعدة تجعل التفاعلات السياسية الحرجة محكومة بالغموض والأسرار والتفاهمات الخفية والقنوات السرية، حيث يعاد تدوير النظام الرسمي، بينما تتوالى الصدمات والمفاجآت القاسية.
نشأ ذلك النظام العربي وازدهر على القضية الفلسطينية، وانكمش ودب به الضعف بسبب القضية الفلسطينية، وافتقد في أكثر من مرة الوظيفة القيادية بسبب هذه القضية، وأجلت الديمقراطية تحت هذا العنوان، ولا يمكن تصور إحداث تغيير حقيقي في المنطقة دون حسم مصير هذه القضية.
عودتنا خبرات المنطقة منذ عدة عقود أن المفاجآت تحملها المجتمعات أكثر من النظم السياسية، وفي كل مرة تأتي التعبيرات أكثر تعقيدا، وبما لا يستطاع تحمله. فمرحلة التقاط الأنفاس مع الوعد الأميركي انتهت بأسرع مما نتوقع، والوعد الجديد بالربيع العربي يخشى عليه اليوم من عملية تضليل استراتيجي، ربما تصبح بعد عقود موضوعا للمفارقات التاريخية الكبرى.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد