قبل واحد وأربعين عاما وضعتني أمي، في يوم ربيعي، وكنت ثامنهم في العدد، كنت اسأل نفسي بعد أن رحلت أمي إلى بارئها كيف تحمل كل هذا الحب لنا ونحن عشرة، وتوزعه بالتساوي؟ لم يشغلها عن الحب لنا سوى حبها لنا. سموني جهاد نزولا عند رغبة أخي زيد الذي يكبرني بسنوات قليلة، والأسماء لها قصة عند أمي؛ فالذي يصغرني اسمه قيصر وكانت قد قطعت عهدا مع الله إن كان ما تحمله ذكرا أن تسميه قيصر، وكان ما كان وجاء قيصر، لأنها كانت تقرأ رائعة شكسبير يوليوس قيصر والجنين يتكون في أحشائها، وكنت أعرفها كل فجر تقرأ القرآن الكريم. سألت نفسي، كم أما من أمهات اليوم تقرأ ليوليوس قيصر، ولم أجد جوابا، كل ذلك يرد في خاطري بعد أن غمرتنا أسئلة الطفولة التي نكتشفها مع أبنائنا وبعد أن أصبنا بالفقد في الأم والأب، وبعد سنوات من العمر الفاني وتراجع دور الأبوة والأمومة الحميم الذي أضعناه في غمرة اللهاث وراء الفتات. ما كان من حب أمهاتنا لا نكتشفه إلا بعد فقده وتلك ليست سنة الأشياء.
وللحديث في القراءة بقية، في العام 1993 دخلت أمي مستشفى مدينة الحسين الطبية لعمل جراحة القلب المفتوح، وكنت في طرابلس الغرب، وعدت إلى عمان وقبلت الوجه الملائكي وجلست إلى جانبها وكانت هيئتي توحي بأنني من العربية الليبية، كشة شعري المنفوشة وتلويح الشمس لوجهي الذي زاد من سماري سمارا، ولم أعلم أن تلك الصورة سوف تلازمني رغم أن كشة الشعر قد أكل الدهر عليها وشرب، ولم اعد مغرما بالمناكفات السابقة العهد بعد أن أصبحت الذئاب قادة القافلة.
قبل أشهر قليلة أقلتني سيارة أجرة من أحد فنادق الدار البيضاء إلى مطار محمد الخامس، تجاذبت وسائق التاكسي أطراف الحديث، ولشدة دهشتي أن سائق التاكسي حتى قبل لحظات من وصولي إلى المطار كان يعتقد أنني ليبي بحكم لون البشرة والسيمياء التي توحي بأنني موغل في البداوة. ضحكت وتذكرت أمي وودعت السائق بروح البداوة التي كان يرسم صورتها لي حتى أدفع المزيد من البقشيش!
دخل أحد الأطباء عندها وكانت تقرأ إحدى روايات مكسيم غوركي ولم اعد أتذكر اسمها، ونظر إليها مبتسما بعد أن قلب الراوية، وعاجلته بسؤال عن البلد الذي تخرج منه، فقال من الاتحاد السوفيتي. هز رأسه وعرف جزءا من القصة.
قبل واحد وأربعين عاما وضعتني أمي، ولم أعرف طعما للحب بعد أن فقدتها، كان الحب بعد حب أمي جزءا من حكاية كاذبة يسردها عاشق كاذب، أو قصة مفتعلة نحدثها لأطفال خبروا الحب البارد المشفوع بكثير من العطايا التي ينخر مذاقها الأسنان، ونحدثهم عن الحب عندما يبلغ السأم مبلغه عندهم من كثرة القنوات التي تبث الرسوم المتحركة، وتشكل ثقافتهم وتصنع من حبنا لهم حكايات نرويها.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جهاد المحيسن