النقل وإعمال العقل
دعو بعض المثقفين إلى إعمال العقلية النقدية, وعدم الارتهان لثقافة التقليد والنقل. ويعيب هؤلاء على الثقافة العربية كونها ثقافة (عنعنة) و(قلقلة)، أي أنها ثقافة نقل لا عقل، تهتم بمنقولات الأسلاف ولا تحرض الخلف على استقلاليتهم الفكرية وإعمال عقلهم الناقد. لذا فإنك تراهم يتغامزون ويتضاحكون عندما يقرؤون كتاباً فيه نقل عن محدث أو احتجاج بمذهب فقيه أو تأصيل لمسألة بناءً على منقول أو مسموع. وفي كلام هؤلاء الجماعة حق كثير، وفي دعوتهم إلى حرية الفكر وإعمال العقل والتحذير من الركون إلى التقليد والاحتجاج بمقولات الأسلاف دون تمحيص ونقد وعرض على العقل خير عميم.
لكنك عند قراءة ما يكتبه هؤلاء تجدهم يملؤون مقالاتهم بعنعنات وقلقلات من نوع آخر. نعم، لا تجد في مقالاتهم وكتاباتهم نقلاً عن ابن عباس، ولا رواية عن أحمد ابن حنبل، ولا تعليلاً لأبي حنيفة، ولا حجة لابن حزم. ولكنك تجده وقد حشر مقاله حشراً بنقولات واقتباسات عن أمثال ليوتار وبودريار وفوكو ودريدا وهابرماس، وإن تعاقل أتاك بكانت وهيغل وسبينوزا.
يا قوم، إن العقلية النقدية لا تعني أن تتنكر للتراث وأن تستبدل منقولاً عربياً بآخر أجنبي، ولا أن تحتج بقول المفكر الغربي كما يحتج السلفي بأشياخه. إن العقلية النقدية منهج للتفكير يقوم على تمحيص ما يرد على العقل فيقبل ما يثبت أنه حق بغض النظر عن قائله ويرفض ما يثبت أنه باطل بغض النظر عن قائله. إن العقلية النقدية لا تتأتى بقراءة المنتج الغربي فقط؛ فإن هذا لا يؤدي إلا إلى تحسين ظاهري وقشرة حداثية. ولكنها تتأتى بتنمية الملكة النقدية بأن يستمر العقل في محاكمة مستمرة للمسلمات الثقافية والفكرية وإعادة النظر فيها وتمحيصها. باختصار إن الحداثة والعقلية النقدية تستلزمان تغييراً في منهجية التفكير وليس في أسلوب الكتابة فقط.
المراجع
www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?id=1850موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث