سؤال المجتمع الأردني القلق في هذا الوقت، تجاوز مسألة رحيل الحكومة الحالية؛ إذ لم يعد يعني للأردنيين كثيرا كم بقي لهذه الحكومة من أيام في الدوار الرابع. السؤال اليوم ينظر إلى غد وبعد غد: ماذا بعد كل هذا التجريب، وإلى أي مصير نسير؟
في النظم الديمقراطية، أمام الشعوب فرصة للمراجعة والتغيير كل أربع سنوات، لتأتي المجتمعات بنخبة جديدة، ومنظور جديد، يتجاوزان العثرات والأخطاء. ونحن أصبح أمامنا فرصة لتغيير الوجوه كل أربعة أشهر بحكومة جديدة، ولكن بدون أن نلمس أي تغيير. إذ يتم تدوير النخب ذاتها والوجوه ذاتها، بينما الأزمات تتراكم وتخنق كل أشكال الحياة، ما يقود المجتمع إلى سؤال حرج حول "السيستم" الأردني هذه المرة؛ هل أصبح بهذا الوضع مولدا للأزمات الذاتية، نتيجة الاستعصاء ورفض المراجعة وتغيير النهج والمنهج؟
هناك ثلاثة معايير أساسية تحكم قدرة أي نظام سياسي، وهي: القدرة على قبول النقد والتصحيح الذاتي؛ ومستوى المناعة الذاتية في مواجهة الأمراض والعلل؛ والقدرة على التجدد. وتملك الدولة الأردنية واحدة من أطول الخبرات الإقليمية والدولية في إدارة الاستقرار، وواحدة من أكثر التجارب الهادئة في إدارة التحولات في الاقتصاد والسياسة والعلاقة مع المجتمع، الأمر الذي يطرح السؤال القاسي الذي على الدولة وحدها أن تواجهه بكل جرأة وصرامة، عن مصدر العلل الراهنة، وموقف الدولة الأردنية الراهن من المعايير الثلاثة السابقة في إدارة الاستقرار والاستمرار في هذا الوقت الحرج.
في المعيار الأول، وعلى مدى سنوات العقد الماضي، نما نمط من ثقافة التستر السياسية التي ترفض الاعتراف بالأخطاء، وتصر على إعادة إنتاجها مجددا، وترفض الاعتراف بالفساد، بل وأدارت حول الفاسدين حصونا منيعة. ثقافة سياسية حاولت أن تزرع خوفا مرضيا حول الإصلاح؛ ثقافة بائسة لها تعريفها المفرط في التطرف للانتماء والولاء الوطنيين، تدير الدولة بمنطق التكسب الشخصي والاسترضاء، وأخلاق تجار التجزئة ويوما بيوم. وقد تسربت هذه الثقافة إلى مستويات أكثر عمقا في إدارات الدولة ومؤسساتها، وضربت عميقا في علاقات الدولة بالمجتمع، وفي علاقات الدولة بالسوق.
وفق المعيار الثاني، باتت الدولة عارية منكشفة أكثر من أي وقت، وتكاد تفتقد المناعة الذاتية. إذ تدب فيها الأزمات، مثل العلل والأمراض في الجسد، وكل أزمة تولد أخرى.
أما وفق المعيار الثالث، فنكاد نفتقد القدرة على التجدد؛ تلك الطاقة السياسية الإيجابية، والقدرة التي كانت تتمتع بها الدولة الأردنية في استشعار الأخطار ومصادر التهديد في تعاملها مع البيئتين الداخلية والإقليمية. فلطالما مرت الدولة في أحوال صعبة، استطاعت بروح مبادرة وبالمناورة الذكية تجاوزها. لكن في هذه المرحلة، باتت حتى المبادرات وسيلة تستخدم للإمعان في تثبيت الأمر الواقع، والمضي نحو المجهول.
في مواجهة سؤال اليوم التالي، نلاحظ ضعف العناصر البنائية التقليدية المتمثلة في استرخاء المؤسسات، وتراجع مكانة الكفايات الوطنية وعزوفها عن الشأن العام، إما بالهجرة والرحيل أو بالعزلة. ونلاحظ إفلاس النخب المتقاعدة ورجال الدولة الذين يفترض أنهم رصيد الدولة، أولئك المشغولون بنهش الدولة بالمال والبنين؛ ونلاحظ إفلاسا من نوع آخر في صفوف المعارضة التقليدية والقوى الأيديولوجية.
إدارة الاستقرار والاستمرار تحتاج كل عقد إلى مراجعة شاملة وجريئة، بعيدا عن الترقيع واختلاق المبررات والأعذار.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد