هل أصبح العرب المعاصرون أقل تسامحا من أجدادهم؟ 
مثلما يحتاج الفيلم الغامض في مصدره وإنتاجه وأهدافه الذي أساء الى الرسول، عليه السلام، الاستنكار والتنديد، فإن الحادثة البشعة التي ذهب فيها السفير الأميركي في ليبيا وثلاثة دبلوماسيين ضحايا بدون ذنب، تحتاج إلى الأدانة والتنديد والرفض الشعبي قبل الرسمي، أي التعبير عن جوهر الثقافة الإسلامية وضمائر الناس.
وتحتاج الحالة الانفعالية الحادة التي باتت سمة أساسية من سمات الشخصية العربية إلى الدراسة والتوقف؛ فلا توجد أمة على هذه الأرض لديها انفعالات حادة وعواطف ملتهبة ومتناقضة مثلما هو الحال عند العرب، على حد تعبير مكسيم ردنسون قبل أكثر من عقدين.
الانفعالات الحادة، وردود الفعل المضطربة، حتما تضاعفت مرات عما كانت عليه في نهاية الثمانينيات. والأخطر أن ما يستفز العرب ويثير عواطفهم، ويخلق حالة هستيريا الشوارع، قد اختلف أيضا، ويحتاج ذلك إلى رسم خريطة إدراكية جديدة للانفعالات العربية. فلم تعد الشوارع تلتهب بالجماهير لمقتل فلسطيني في الخليل أو غزة، أو الهجوم على مزارع وعائلته في جنوب لبنان كما كان يحدث قبل عقدين. ثمة تطبيع عميق مع القتل والموت اليومي المجاني وغير المجاني، كما حدث في العراق على مدى عقد، وما يزال يحدث، وكما حدث في الجزائر وليبيا ، وكما يحدث بكل بشاعة اليوم في سورية.
كيف تُفهم كل هذه الانفعالات الحادة وردود الفعل الفورية الهائجة كلما تفوه أحدهم بعبارة أو نشر رسما وبث فيلما؟ صحيح أن ثمة تحالفا غير معلن وغير مدرك بين المتطرفين هنا وهناك، ويستثمر كل منهما أفعال وردود أفعال الآخرين؛ وصحيح أن ثمة جهلا وعدم إدراك للثقافة الغربية ومعنى الحريات وحدودها، وحتى مسؤولية الوكالات الحكومية عن تصرفات الأفراد والجماعات، ولكن الأهم من ذلك كله -على وجاهته– هو فهم التحولات الداخلية في المجتمعات العربية، وتحديدا في إعادة توزيع القوة وتركيزها داخل المجتمعات والنخب العربية لصالح القوى المتطرفة القليلة، وحالة التخويف والذعر التي جعلت المجتمع ينساق معها ويدخل في "دوامة الصمت"، حسب تعبير إليزابيث نيومان في وصف الجماهير المذعورة الخائفة من العقاب المعنوي، ما فتح المجال واسعا للتوظيف السياسي لهذه الحالة.
لقد انتهى العهد الذي كان فيه رجال الدين المتعصبون هم الذين يحددون موقف الغرب من الإسلام؛ فمنذ القرن السابع عشر الميلادي بدأت تتغير الصورة شيئاً فشيئاً حينما بدأ الغرب اكتشاف بعض الآداب العربية التي أسهمت في تكوين صورة شبه خيالية عن الإسلام، ساهم فيها الرحالة والأنثروبولوجيون والمستشرقون في التعريف بالشعوب الإسلامية وتاريخها.
لقد ظهرت شكوى غربية خلال السنوات الماضية، رددها مفكرون وسياسيون أمثال الأمير تشارلز، وجيمس بسكاتوري، ومانويل ماران، تتحدث عن أحادية الحوار وافتقاد أي مبادرة من الجانب العربي والإسلامي تحرك المياه الراكدة شرق المتوسط وجنوبه، الأمر الذي يحول العلاقة، أو ما يسمى بالحوار الحضاري، إلى نوع من الوصاية واستمرار الهيمنة.
لم نستفد من أزمة الرسوم الدنماركية إلا المزيد من الانفعال وسيطرة المتطرفين. في المقابل، يلاحظ كيف فهمت المؤسسة الثقافية والأكاديمية والسياسية الدنماركية تلك الأزمة، وكيف وضعتها في سياقها الموضوعي. إذ كان رد الدنماركيين خلال السنوات القليلة الماضية العديد من المشاريع الإعلامية والثقافية والأكاديمية الموجهة إلى العالم العربي، عنوانها العريض أولوية حرية التعبير وكرامة الإنسان.
هل يبدو المسلمون اليوم أقل تسامحا من أجدادهم؟ هو السؤال المركزي الذي يطرح في أجواء الاختناق المعنوي. هل المؤسسات الإسلامية الكبرى، الممتدة من المجامع الفقهية والأزهر الشريف والمرجعيات الدينية والحركات الأهلية، وعلى رأسها التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الرافضة لمنطق صدام الحضارات، لا تملك القدرة على المبادرة وتقديم الرد الثقافي على تلك الاستفزازات، بدلا من ترك الساحة فارغة للمتطرفين؟ الرد الذي يشرح للعالم الثقافة الإسلامية بإنتاج عشرات الأفلام عن أنبياء المسيحية واليهودية، عن قيمهم العظيمة وتسامحهم، وعشرات الكتب والمؤلفات عن رؤية الإسلام للتعايش وعن قيم التسامح، والمبادرة باستعادة زمام الحوار والدعوة المشتركة إلى إعادة تحرير الموسوعات والقواميس والكتب الصفراء والخضراء وذاكرة السينما من بذور الكراهية؛ فالقتل أبشع مئات المرات من استعادة الشتائم المكررة.

المراجع

[http://www.alghad.com/articles/527579-%D8%A3%D9%85%D8%A9-%D9%85%D9%86%D9%81%D8%B9%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AA%D9%84-%D8%A3%D8%A8%D8%B4%D8%B9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D9%85%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%D8%A3%D9%85%D8%A9%20%D9%85%D9%86%D9%81%D8%B9%D9%84%D8%A9:%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AA%D9%84%20%D8%A3%D8%A8%D8%B4%D8%B9%20%D9%85%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D9%85 جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد