لا غرابة في الاعتراف بحالة الغموض وسط نخب مستقلة واسعة في تحديد مواقفها من خيارات النخبة الحكومية الأخيرة، بين مفاجأة اختيار الرئيس عبدالله النسور، مقابل استمرار الاستعصاء السياسي المزمن في تشكيل الفريق الوزاري بذات المعايير التقليدية التي تعد جزءا من عناصر التأزيم التي تعيشها البلاد. إذ تبدو أهمية التفكير في مفارقة قدرة الفرد على التغيير، ودور الكفاءة الفردية في الإدارة الحرجة.
هنا نتذكر "الزفة الإعلامية"، الرسمية وغير الرسمية، التي قابلت اختيار الرئيس السابق عون الخصاونة وما قيل بحق الرجل، وحفلة الشتائم التي وُدع بها بعد أشهر قليلة، ما يستدعي استحضار قوة الدولة وتعقيدها، وقدرتها الجديدة على إنتاج رموز المعارضة من داخلها ورعايتها والانقلاب عليها في لحظة ما، مقابل الحاجة إلى إخضاع التجربة الأردنية للتفكير من زاوية أخرى، وهي قدرة الأفراد على إحداث اختراقات داخل النظام، وإعادة تعريف المصلحة الوطنية العليا بمقاسها الحقيقي الذي ينتمي للناس أولا وحاجاتهم الفعلية، ولقوة الدولة ثانيا، وللكفاءة ثالثا؛ وهي معايير لا يمكن التفريط بأحدها.
على مدى العقدين الماضيين، ظهر أكثر من منظور سياسي واجتماعي حاول إقناع الدولة بأن ثمة تعارضا قد يحدث في لحظة ما في تعريف المصلحة الوطنية؛ إذ قد تتعارض قوة الدولة مع الكفاءة، أو قد تتعارض أولويات الناس وحاجاتهم مع قوة الدولة. ولعل هذا التعريف أو التشويه مدخلنا لفهم جانب من حالة الفوضى والفساد التي راكمت بنية سياسية ضعيفة، وفتحت المجال أمام بروز الدولة الموازية وضعف الولاية العامة للمؤسسات الدستورية. خلال تلك السنوات مرت على الأردن لحظات حرجة، تشبه في تعقيدها حجم ما نشهده اليوم، صاحبها فشل متجدد في منهج تصعيد وتجنيد النخب الحكومية. وهنا تكمن اليوم البؤرة الأكثر حرجا، ليس في شكل الحكومة الحالية، بل في تكوين أول حكومة برلمانية منتظرة بعد الانتخابات، وطبيعة التحالفات التي بدأت تتضح.
لا أحد في الأردن يريد إحداث قطيعة شاملة وجذرية مع البنية الحكومية التقليدية، فيما ما يزال خطاب الشارع يدور حول إصلاح آليات تكوين هذه النخب، من خلال تحريرها من الفساد، واستعادة الكفاءة والجدارة، ومدها بالدماء الجديدة. أما الإصرار على استمرار هذه البنية، فسيدفع الشارع إلى حد أن يطالب بالطلاق منها.
الرئيس الجديد ليس بحاجة إلى نصائح ولا إلى من يرتب له الأولويات؛ فمن المنطقي أن المعارض الصلب هو الأعرف بتضاريس الخراب وخرائط الطرق البديلة والسريعة، ولديه الكثير ليقوله والكثير ليفعله، في ضوء محددات دستورية وقانونية دقيقة لا تتيح مساحة للمناورة ولا مجالا لطرح الخيارات؛ ما يعني عمليا التساؤل حول أي فرصة للتغيير أمام الرئيس. ما يعني أن نقدر جيدا دور هذه الحكومة ووظيفتها، والاعتراف بوضوح أنها لم تأت لإحداث التغيير، بل لاستكمال مهمة وحيدة، هي إجراء الانتخابات وسط محددات حرجة.
يبقى الرهان على دور السلوك الحكومي خلال الأشهر الأربعة المقبلة، وقدرة الرئيس على إحداث اختراق في الشعور العام للأردنيين، واستعادة بعض ثقتهم. بوضوح أكثر؛ أن تجرى الانتخابات بدون حدوث انفجارات اجتماعية على خلفيات اقتصادية أو سياسية، إذ يحتاج الرئيس إلى قدرة فائقة في الإدارة الحرجة، وأن يمشي  بجسارة على حد السيف وسط حقول من الألغام.
في الأشهر الأربعة المقبلة، يوجد في الحكم رئيس بكفاءة عالية وقدرة على المناورة، وفريق حكومي تقليدي، ومهمة وحيدة هي إجراء انتخابات مرضي عنها وسط مقاطعة سياسية، والنأي بالبلاد عن أي قلق داخلي، في انتظار ما يحدث على الحدود الشمالية من تطورات، بالتزامن مع بداية مرحلة جديدة في البيت الأبيض. في هذه الأشهر المقبلة، يستمر منظور شراء الوقت ولا تغيير حقيقيا ينتظر.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد