في مخيال الثقافة العربية أننا نبجّل ما قد مضى ونلعن الحاضر، وثمة صورة مشوشة عن المستقبل، فهو ليس إلا امتدادا للحاضر الملعون والماضي المقدس. في خضم هذا وذاك يتربع البكاء على الأطلال، والمحبوبة والخل الوفي. كل ذلك يسير وفق نظام يبتعد بنا عن الواقع.
لماذا نكتب عن الأحباء والأصدقاء عند الفقد فقط؟ ثمة لغز في النفس البشرية يسعى لنفي الآخر ويعيد إنتاجه بعد الوداع للتذكر والفقد. ثمة مشتركات كثيرة تجمع بين الاثنين، وثمة سحر الاجترار يسيطر على الذات في لحظة الوداع الأخير، لكنّ ثمة طرقا تقتضي كسر هذا "التابو"، وضمن سياق الكسر هذا يأتي الحديث عن القابضين على الجمر الذين رهنوا أنفسهم للوطن كل الوطن، وفلسطين كل فلسطين.
منذ عقدين مررت ببغداد، وفي أزقتها وشوارعها أصر القابض على الجمر دليل القسوس أن يعرفني بمعالم بغداد؛ بغداد وجع القلب ووجع النفط ووجع الفرس ووجع الأميركيين ووجع الاحتراب الطائفي. وفي ناحية من نواحي بغداد، ترجلنا في يوم صيفي قائظ ليريني منزل عصام ولؤي، فهو بالنسبة لدليل القسوس معلم من معالم بغداد. كان هذا بيتا من البيوت الكثيرة التي ضمتهما في شتات النضال في بيروت ودمشق وغيرها من المدن التي حفلت بهما وبذكريات التحرير والثورة.
مناضلان من صنف مختلف، فقيران من رائحة طيبة، ومثقفان بلون واحد، لم تغيرهما عاديات الزمن، ولا الخروج الكبير من بيروت، ولا ظلمات السجن، تجمعهما أكثر من قصة تسرد وتقال، ولكن عنوانها الوحيد القبض على الجمر في زمن الرماد. 
عصام حدادين راهب الصومعة النضالية، تجده في كل مكان متفائلا حالما بمستقبل، وأمه "كوكب" بالنسبة لنا السيدة مريم، تحب الجميع؛ يدلفون إلى بيتها على ربوة في قرية ماعين. تحنو على الكل. وأجزم أن من عرفها ينحني احتراما لقامتها العالية ويعرف أنها أم له.
أما لؤي ابن السيد الدباغ. كانت أزقة الطفيلة وحواريها وذكريات الطفولة المشتركة في ضحكتنا رغم فارق السن بيننا. ساحة الذكرى الواحدة من أشجار التوت في حارة البحرات التي كانت ترعاها حبسة الضباعين، إلى كل الشيطنات على "القُف". ثمة وجد يخبئه المكان، وثمة عفة يخبئها المكان، وثمة تلوث يصنعه الإنسان، وثمة لؤم تصنعه النفس البشرية تفسد القداسة المفترضة في النفس البشرية.
القابضون على الجمر قبضوا على الجوع، وقبضوا على جمر النضال؛ لم يهادنوا ولم يتكسبوا من وراء نضالهم، ولم يفردوا العضلات في الحديث عن بطولات بيروت التي كان كثيرون يستعرضون بها، وأخلصوا للوطن وأخلصوا لفلسطين. على أحبتي لؤي وعصام السلام، وعلى ماعين السلام، وعلى الطفيلة السلام، وعلى فلسطين السلام.. هذا بعض ما يسمح به القول والمخفي فيه قول آخر.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جهاد المحيسن