تغيب الصحافة المعمقة عن متابعة التطورات والقضايا العامة في الأردن. ولعل المثال الأكثر وضوحا هذه الأيام هو غياب هذه الصحافة العلمية عن بحث سيناريوهات وملامح المرحلة المقبلة، على المدى القريب والمتوسط، في ضوء التحولات المنتظرة بإلغاء الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية ورفع أسعار الكهرباء، مع ما سيترتب على ذلك  من متوالية طويلة من ارتفاع الأسعار وكلف الحياة؛ فلا جديد غير الإنشاء السياسي في الزفة الحكومية التي تبرر القرارات الرسمية، أو الشتائم والوعيد بانفجار البلاد. لا نقرأ ولا نسمع ولا نشاهد متابعات إعلامية جادة وعميقة تقول لنا إلى أين تسير البلاد بالرقم وبالوقائع، أو بالنماذج الاستشرافية التقريبية.
لم تُقدم الى هذا الوقت قراءات معمقة توضح، للمجتمع وللمستهلكين، مصفوفة السلع المرشحة أن ينالها ارتفاع الأسعار في المديين القريب والمتوسط، وحجم الارتفاع المتوقع. لم تقدم قراءات معمقة تطرح نماذج محاكاة لسلوك طبقة من التجار في استثمار هذا الموسم، ولا نماذج محاكاة أخرى لسلوك المستهلكين في مواجهة موجات ارتفاع الأسعار. ولم نلاحظ توعية وتثقيفا للمجتمع في مواجهة تحالف السلطة مع السوق، وفي مواجهة الغلاء والاحتكار.
ليس لدينا كمستهلكين فكرة واضحة عن سلوك القطاعات المحتكرة من قبل فئات محدودة؛ كيف سيتصرف هؤلاء الاحتكاريون غدا وسط الحجة القابلة للتسويق بأن كلف الطاقة هي الأعلى بين مدخلات الإنتاج؟ ما حجم تأثير القرارات الحكومية المنتظرة على النقل والسفر والسياحة، وعلى مئات الآلاف من المواطنين الذين تضطرهم ظروف العمل إلى تناول وجباتهم خارج المنازل؟ ما هي السلع والأسواق التي ستزدهر وتلك التي ستنقرض؟
كيف نرسم خرائط للتحولات القادمة التي ستقود إليها موجة ارتفاع الأسعار مع الانكشاف الاقتصادي الحاد الذي يعصف بالمجتمع، ومع ازدياد انكشاف الفساد، وانكشاف عمق الآثار التي تركها في الحياة اليومية للناس؟ وكيف سيتحالف الانكشاف الاقتصادي مع الفساد في التراجع المستمر لحجم الإنفاق على التعليم في الموازنات العامة، وحالة الإنهاك التي وصلت إليها المستشفيات العامة، وفي حالة التردي التي وصلت إليها البنى التحتية بشكل عام وعلى رأسها الطرق الخارجية التي تشهد حوادث السير المميتة، وفي شبكات المياه في بعض المحافظات التي لم تصلها الصيانة منذ ثلاثين عاما؟ ما هو السيناريو في كل قطاع على حدة؟  وكيف سيمس أو يعصف بحياة الأسر والأفراد؟ وما احتمالات مواجهة هذه التحولات أو الاستسلام لها؟
ارتفاع أسعار السلع الأساسية ينقل الفئات العريضة من المجتمع إلى نمط من الاقتصاد السلعي القائم على سد الحاجات اليومية الأساسية من أردأ الأنواع، وتكتفي الأسر بالبحث عن سد حاجاتها اليومية بالكفاف من سلع وخدمات كانت في السابق ترفضها الأسواق، لأن معيار القدرات الشرائية عادة ما يحدد خصائص أجندة بضائع التجار. وبالنتيجة، ترضى هذه الفئات/ الطبقات بالرديء من السلع والخدمات، بل وتبحث عنه. وفي هذه الظروف، تنتعش قطاعات للرداءة، أحياناً تمارس نشاطها بانتهازية مكشوفة، وأحياناً نتواطأ جميعاً في خلق ثقافة تتستر وتحجب ما يحدث حولها.
في خط مواز لهذه التحولات، يزداد الضغط والاستهلاك الجائر للنظم البيئية المحلية بأبعادها المختلفة، نتيجة الاستهلاك الجائر للبنى التحتية وسوء إدارتها وتحميلها فوق طاقتها. سنلاحظ كيف سيواجه الأردنيون في عجلون والطفيلة برد الشتاء خلال الأسابيع المقبلة، وأي مصادر للطاقة سيعتمدون عليها. وللأسف، فإن إمكانية رسم سيناريوهات لاحتمالات مسار التدهور في النظم البيئية المحلية يعد من أعقد الأمور.
تدل معظم الخبرات التاريخية لمجتمعات أخرى شهدت موجات من الانكشاف الاقتصادي وارتفاع الأسعار، أن الرد ليس شرطا أن يكون في الشارع وبالثورات والغضب على السلطة،  بل الأخطر من ذلك في العمق الاجتماعي هو المزيد من رداءة الحياة الاجتماعية والعنف في الأسرة والعنف المجتمعي، وإنتاج موجة جديدة من الفساد، هذه المرة يكون الفساد الصغير ولكن المعمم الذي يمارسه صغار الموظفين؛ أي فساد المجتمع. وذلك إلى جانب انتشار المخدرات والانحلال والدعارة. تصوروا كم نحتاج من جهود تنويرية، هي أقل ما يمكن فعله، من خلال صحافة معمقة ومسؤولة.
 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد