حسم التونسيون أمرهم في انتخابات المجلس التأسيسي الذي ستوكل إليه مهمة وضع دستور جديد لتونس ينهي مرحلة سابقة امتدت عشرات السنوات. تلك النتيجة هي أولى ثمرات الربيع الديمقراطي الذي دشنته ثورة الياسمين. وتشكل عودة حزب النهضة الإسلامي الذي كان محظورا بهذه القوة إلى مسرح الأحداث كلاعب رئيسي، دليلا على الفشل الذريع لظاهرة الإلغاء التي اتبعها النظام التونسي السابق لمعارضيه، وهي السياسة التي سوّق لها النظام التونسي في المنطقة ظنا منه أنها نجحت في استئصال شأفة الإسلاميين واليساريين، ولقيت ترحيبا من بعض الدوائر الغربية التي أمدّت النظام بالقروض والتسهيلات المالية، وغضت الطرف عن الانتهاكات المروّعة لحقوق الإنسان، وتحدثت عن المعجزة الاقتصادية التونسية، ليفاجأ العالم بعد ثورة الياسمين بالكذبة الكبيرة التي سوّق لها الإعلام الغربي لتغطية الواقع المخيف الذي آلت إليه الأوضاع في دولة كانت تديرها مجموعة من اللصوص وناهبي المال العام.
مر ما يزيد على نصف قرن من التحديث القسري خارج الإطار العام للمبادئ الإسلامية، وعلمنة المجتمع التونسي، وحظر الحجاب والاستهزاء بالأذان والشعائر الدينية، ونهج الأرض المحروقة في ملاحقة المعارضين في الداخل والخارج. كل ذلك لم يحل دون تعبير المجتمع التونسي، في أول فرصة أتيحت له ليدلي برأيه الحر بدون خوف أو مصادرة أو تزوير، عن رغبته بمبادئ جديدة في بناء الدولة الحديثة، قوامها الإسلام والديمقراطية والحرية والمساواة والتنمية والعدالة الاجتماعية، وهي الشعارات التي رفعها حزب النهضة التونسي منذ تأسيسه قبل ثلاثة عقود.
هذه المشاركة المكثفة للناخبين التونسيين، خصوصا بين الشباب، في الاستحقاقات الأخيرة، وهي أول استحقاقات تجري في تونس في ظل الربيع الديمقراطي، تدل دلالة واضحة على عدم سلبية الشباب العربي تجاه السياسة كما يسوّق لذلك، بل هناك متابعة من الشباب لما يدور حوله من أحداث، وأنه معني ببناء مستقبله، منخرط في الحراك السياسي بشكل إيجابي، منفعل مع واقعه، متابع لما يجري حوله، قادر على قلب ميزان القوى وفق آليات متنوعة، سواء بالمشاركة السياسية عبر صناديق الاقتراع عندما تكون اللعبة واضحة وقواعد النزاهة فيها محترمة، أو النزول إلى الشارع في مظاهرات سلمية ترفع شعار "الشعب يريد"، أو النزول إلى الساحات عندما يختار النظام القمعي توجيه دباباته وآلياته العسكرية لصدور أبنائه وشعبه، كما وقع في ليبيا ويقع في سورية.
وتنبع أهمية المجلس الوطني التأسيسي في تونس من حجم مهامه في المرحلة المقبلة، حيث تقع على عاتقه صياغة دستور جديد لتونس، وإقامة سلطات تنفيذية جديدة، والقيام بمهام التشريع خلال الفترة الانتقالية التي ستمتد حتى تنظيم الانتخابات العامة وفق الدستور الجديد. لذلك، فإن سياسة إلغاء الآخر التي انتهجتها الأنظمة في تونس وفي غيرها تؤكد فشلها الذريع في أن تحقق النتائج المرجوة منها. كما أن مشروع تونس الجديد مع حركة النهضة يستوجب استيعاب الدرس، وعلى أعضائها أن يكونوا حريصين على عدم انتهاج مثل تلك السياسة التي سقط بها من سلفهم، وهي سياسة الإلغاء.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جهاد المحيسن