مرة أخرى كشفت الأمطار التي شهدتها المملكة نهاية الأسبوع الماضي، بما أدت إليه من سيول عارمة وفيضانات، حجم ضعف البنية التحتية وهشاشتها، وكأن بلادنا مصمَّمة للصيف فقط إلى جانب حجم المياه المسكوبة بدون فائدة مثلى في بلاد يقتلها العطش، ومن المتوقع أن يكون تهديد شح المياه مصدر الصداع الأكبر في الأيام القادمة.
المسألة المتكررة لا تتوقف على دروس تعلمناها مرارا من مواسم مطرية سابقة، بل لفت الانتباه إلى أنه لا توجد إجراءات جدية وعملية تأخذ بعين الاعتبار مسألة السيول والفيضانات في مشاريع تطوير البنى التحتية، في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة الى إعادة التفكير في أهمية السدود الصغيرة التي قد تصل إلى حد الستائر الترابية، وتحديدا على خطوط سلسلة الجبال الغربية من الشمال إلى الجنوب، وأهميتها في تجميع المياه وإعادة استخدامها، والاستفادة من كل قطرة مياه، كما فعلت كل الحضارات التي شهدتها هذه البلاد، وبدون ذلك فلا مستقبل ولا حياة على هذه الارض.
بينما يطل ملف المياه برأسه وبقوة كلما ازداد الحديث عن حرب قادمة أو تسوية يقترب ميقاتها، لا يوجد التفات جدي إلى الحلول الذاتية وإلى الخبرة التاريخية التي شيدت على هذه الارض. عمت الأمطار هذا الموسم مختلف أنحاء البلاد في الشمال والجنوب والوسط حتى الصحراء الشرقية نالتها كميات تساقط لا بأس بها، في وقت كشفت أمطار هذا العام المزيد من التحديات في سياسات إدارة المياه، ولعل مثال إدارة مياه السيول والسدود أبرزها.
التحدي الحقيقي في مشكلة المياه في الأردن يكمن في إدارة المياه، أي في إدارة الندرة المتوفرة، حيث لا يمكن التدخل في قوانين الطبيعة، كما لا يمكن تصور أن تقوم الحكومة بشق نهر يمتد من المفرق ليصب في الجفر أو باير، لكن سوء إدارة هذا الملف الحرج الذي لا نتقن فيه سوى الشكوى أمام المحافل الدولية، يكمن في قصة المياه المسكوبة من دون فائدة؛ بعضها يتدفق عبر الحدود الدولية ويذهب لتغذية المخزون الجوفي والمزروعات البعلية في دول مجاورة أو تترك لتتبخر من دون جدوى.
الماء الأردني المسكوب كان يمكن أن يدشن أنهارا من نوع آخر، عبر مئات السدود الصغيرة والحفائر العملاقة وإدارة الحصاد المائي من المفرق والأزرق والجفر والصحراء الجنوبية إلى عمق وادي السرحان وصولاً إلى المنحدرات الغربية المذهلة على امتداد الشراة الغربية ووادي عربة ومرتفعات السلط وعجلون، حيث يتساقط على الأردن ما معدله حوالي (8) بليون متر مكعب من تدفق الأمطار السنوي، في بلاد تمتاز بتضاريس مدهشة توفر مساقط مائية ومنحدرات عملاقة لتجميع المياه؛ أليس اسم الأردن في الآرامية يعني المنحدر الحاد.
ففي الأردن قامت العديد من الحضارات القديمة التي نهضت ودشنت دولا إقليمية كبرى بفعل حسن إدارة المياه، بالاستفادة من الندرة وتحويلها إلى عنصر قوة، وفي البلاد التي شيد فيها أول سد مائي في تاريخ البشرية في جاوا فشلت لدينا سياسات بناء السدود المائية، حيث إن السدود العشرة الرئيسية لا تخزن سوى ثلث طاقاتها الاستيعابية في الموسم الجيد، وآخرها هذا العام حيث لا تتجاوز الأرقام الرسمية الصادرة قبل ايام 42 % من الطاقة الاستيعابية لهذه السدود، في حين بلغت كميات المياه المخزنة حاليا في السدود نحو 138 مليون متر مكعب قبل الأمطار الأخيرة من طاقة التخزين الكلي للسدود البالغة 325 مليون متر مكعب. وتوضح الأرقام الدليل على فشل هذه السياسات؛ فسد الكرامة على سبيل المثال الذي كلف خزينة الدولة حوالي 90 مليون دولار لم يجمع خلفه سوى كميات ضئيلة منذ عشر سنوات، حيث ثبت أن هذا السد الكبير تم تشييده على مسقط مائي غير مجد، بينما هناك عشرات المساقط المائية العملاقة في المنحدرات الغربية المحيطة، كما هو الحال في سد الوحدة العتيد.
الماء المهدور في الأردن يفهم سياسيا أيضا، في إدارة ملف المياه؛ أبسط الأمثلة على هذا الواقع رفض الاعتراف جديا بمئات ملايين الأمتار من المياه التي تتدفق عبر الحدود، وبالاستغلال الجائر لمياهنا الجوفية في الداخل والخارج، وفي الاتفاقيات الدولية الظالمة في الحقوق المائية، وأمثلتها واضحة على الجانب الإسرائيلي وعلى الجانبين السوري والسعودي.
بدل البكاء على الماء المسكوب في كل عام، نحن بحاجة إلى إسعاف حقيقي في إدارة ملف المياه؛ هيئة وطنية للسدود والحصاد المائي، مئات السدود الصغيرة، نظام متقدم للحفائر وتجميع المياه تعيد توزيع الناس وتدشين قرى جديدة ومجتمعات عمرانية منتجة. الالتفات الجدي لهذا التحدي ليكون مسألة أمن وطني بالمعنى الحقيقي، بحاجة الى خريطة وطنية جديدة للأرض والماء والناس.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد