بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من جولات المشاورات التي بدأت داخل أروقة البرلمان بين الكتل والمجموعات النيابية، ثم انتقلت إلى قصر بسمان، في تقليد جديد لتسمية رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة؛ تبدو الخلاصات للوهلة الأولى محبطة. ولكنها من زاوية أخرى معقولة، ويجب أن لا تنتظر أكثر من ذلك.
لا جديد في عمان، ما لم يتم اختراق الكتلة الصلبة للطبقة السياسية التقليدية. فما تزال المناورة تجري بين أعضاء النادي السياسي التقليدي، فيما الخطاب السياسي لرأس الدولة يتقدم بمسافات شاسعة عما يجري على أرض المعركة السياسية. ولكن هذه المفارقة لا بد أن تصل إلى نقطة من التناقض تحسم عندها. 
ونرصد أهم الخلاصات الأولية لتجربة المشاورات التي يجب أن تتوقف عند هذا الحد، إذ أخذت تُفرغ من معناها:
أولاً: إن المشاورات لم تفشل، بل أدت جانبا مهماً من مهمتها، وكشفت خصائص الطبقة السياسية التي تتقاسم السلطات، ومستوى وعيها وإدراكها لهذه مرحلة، ومحدداتها ومصادر التهديد والأخطار التي تواجهها البلاد، وأولويات الإصلاح، ومفهوم المصلحة الوطنية والصالح العام.
ثانياً: كما حذرنا سابقاً، وحذر العديد من الأقلام، فإن المشاورات تجربة جديدة، ومن يقوم بها عليه أن يلتفت إلى أنها ممارسة جديدة. ومن ثم، تحتاج هذه الممارسة إلى قواعد ومعايير واضحة ومحددة في الإطار الزمني والإطار السياسي، كما في الإطار الإجرائي؛ فجزء من حالة الفوضى التي قادت إليها المشاورات يعود إلى غياب هذه القواعد والمعايير.
ثالثاً: إن السلوك النيابي خلال هذه التجربة انقسم إلى محورين: الأول، البحث عن الشعبية؛ إذ يبدو عدم التمييز بين سمعة المجلس وصورته لدى الرأي العام، والقائمتين على كفاءة الأداء والإدراك الحقيقي للأولويات، وبين الشعبية السريعة. أما المحور الثاني، فيتمثل في بروز البحث عن المصالح الشخصية والآنية.
رابعاً: أدى الميل الواضح لدى طيف كبير من أعضاء المجلس نحو توزير النواب، إلى ضرب مصداقية المجلس الجديد بسرعة، وهو يشكل في هذا الوقت الانطباع العام عنه، ولسان حال الرأي العام أن الكتل التي أوجدت هذه الفوضى السياسية خلال الأسابيع الماضية، وفشلت في التوافق على اسم رئيس الوزراء، لا تريد من فكرة توزير النواب سوى تحقيق المصالح الذاتية لهم، وللحلقة الضيقة من محاسبيهم ودوائرهم الانتخابية. وفي الذاكرة القريبة يبرز كيف استثمر نواب أصبحوا وزراء وزاراتهم وعلاقاتهم أسوأ استثمار، من أجل العودة إلى البرلمان مرة أخرى. فالرأي العام أكثر ميلاً من أي وقت سابق نحو تعميق مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهذا يتفق مع جوهر المصلحة الوطنية في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تتطلب التركيز على الدور الرقابي للسلطة التشريعية.
تجربة المشاورات كشفت كم تحتاج البلاد إلى إصلاحات حقيقية، جوهرها الإصلاحات التشريعية؛ وترسيخ مبدأ الحكومات البرلمانية، وليس الهروب منها؛ واختراق الطبقة السياسية التقليدية، وهنا المعركة الحقيقية المقبلة في مسار الإصلاح. وعلينا أن نسترجع اللحظة التاريخية للموجة الأولى من التحول الديمقراطي بعد العام 1989؛ وكيف تم تفريغ تلك اللحظة حينما عجز المجتمع السياسي والدولة عن تجاوز الطبقة السياسية التقليدية، وكيف خسرت البلاد أكثر من عقدين في إجهاض التحول الديمقراطي وتراجع الاستقرار وفوضى التنمية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد