هناك منظوران يديران أزمات الشرق الأوسط في هذا الوقت، وعلى ثلاثة محاور أساسية، هي: الأزمة السورية، والصراع التاريخي في الشرق الأوسط، وتصفية آثار الربيع العربي وأزماته المتدحرجة. هذان المنظوران هما: الحرب الإقليمية وفق نظرية مسرح الفوضى الشاملة، ومنظور الصفقة الشاملة.
هذه خلاصة معطيات تُقرأ في الأفق. فما يمكن أن يُفعل بالسياسة، سيتم بالتفاهمات والصفقات. وما يستعصي على السياسة، سيحتاج إلى أداة أخرى للتحريك. فقرارات إشعال المنطقة بأكملها جاهزة، وتكاد دلالاتها تبدو ظاهرة. في المقابل، ثمة مؤشرات متصاعدة، تتنامى يوما بعد يوم، على صفقة شاملة، تقوم على تفاهمات بين الكبار، وينفذها الصغار والكبار معا، عنوانها الأول سورية، فيما تمتد نحو بداية عملية تاريخية ثالثة (بعد كامب ديفيد الأولى، ومسار مدريد وأوسلو ووادي عربة) في تصفية الصراعات التقليدية، ثم إعادة هندسة الشرق الأوسط في ضوء وقائع الربيع العربي.
بقيت التقديرات الإقليمية إلى وقت قريب جدا، تُخرج القضية الفلسطينية من مسار التفاعل السياسي والاستراتيجي في المنطقة؛ إذ أُطلق على الزيارة الأخيرة للرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المنطقة الكثير من الأوصاف، وقيل أن لا رغبة ولا قدرة لدى الولايات المتحدة في تحريك الأوضاع في الشرق الأوسط. بل ذهب البعض إلى أن الأجندة الأميركية العالمية تتجه نحو آسيا والشرق الأقصى تحديدا، ولا مكان حقيقيا فيها للشرق الأوسط القديم ولا الجديد. وخلال أقل من شهر، تعود التقديرات من جديد للانقلاب على نفسها؛ فالتهديدات الكورية الشمالية، والمزاج السياسي في آسيا، تدفعان الولايات المتحدة إلى الحفاظ على الأوضاع القائمة هناك، والاكتفاء بإدارة الصراع بدون أي تورط في تحريكه، بينما تصل الصراعات والأزمات في الشرق الأوسط إلى مرحلة من النضوج التي تبحث كل الأطراف عن حصة أو موطئ قدم فيها.
كانت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، في نهاية التسعينيات، قد توصلت إلى نتيجة مفادها: "دعوا الشرق الأوسط وشعوبه، فإنها ما تزال شعوبا نيّئة تحتاج المزيد من الطبخ. فدعوها تطبخ بعضها بعضا بالصراع والاقتتال حتى تنضج". ولعل هذه الفرضية هي التي صبغت مرحلة إدارة الصراع الحالية من المدخل الإسرائيلي: انقسام واقتتال فلسطيني، وانقسام وفوضى عربية إقليمية، واستمرار لتغيير الوقائع على الأرض إسرائيليا.
ويبدو أن شروطا إسرائيلية وأميركية قد نضجت لإحداث تحول جديد، سيشكل العملية التاريخية الثالثة، والتي ستكون بحجم العمليتين السابقتين، ولكنها لن تنهي الصراع. ويبدو أن الجميع آخذ في التكيف استعدادا لهذه العملية التي قد تحتاج من عامين إلى ثلاثة أعوام؛ حكومة فلسطينية جديدة، مصالحة منتظرة بين حركتي "حماس" و"فتح"، عودة متوقعة لبعض رموز العمل الفلسطيني إلى الداخل، المزيد من الاقتراب التركي من المنطقة لم يحدث منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية قبل قرن، تفاهمات أردنية-فلسطينية على ملفات كبيرة عالقة ومؤجلة مثل ملف القدس، والإصرار على أن يخدم الحل العسكري أو السياسي في سورية، بشكل أو بآخر، هذه العملية، وهو الأمر الذي سينسحب حتما على الساحة اللبنانية.
في ضوء ذلك، تُفهم التسريبات عن مؤتمر خماسي في عمان، يضم الفلسطينيين والإسرائيليين بحضور تركي وأردني ورعاية أميركية، كما تُفهم عودة الاستعدادات لمنطقة عازلة أو آمنة في جنوب سورية، فيما لا تغيب لحظة فكرة تحريك المنطقة بأكملها بحرب تمتد على مساحة الشرق الأوسط القديم، الذي ما يزال يتعسر في الولادة والموت.
بقلم: د.باسم الطويسي
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي العلوم الاجتماعية جريدة الغد