بين فرحة عيد ميلاده الحادي والسبعين، وغصة القلب على إحالته إلى التقاعد بعد اثنين وأربعين عاما من العطاء، وقف أمس صديقي أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية أحمد ماضي، يودع جامعته وطلبته في كرنفال مهيب من المحبة، جمع الأصدقاء من طلبة وأساتذة وأحبة ومريدين.
أحمد ماضي الذي منح زهرة عمره لجامعته الأردنية، سمعنا في حفل وداعه قصة الجامعة الأردنية تتحدث عن نفسها. على طاولة واحدة، وفي مكان واحد، اجتمع الأحبة من أكاديميي الصف الأول في الوطن الذي يلفظ أبناءه مبكرا.
شيخ المؤرخين الأستاذ الدكتور عبدالكريم غرايبة، ابن الاثنين والتسعين ربيعا؛ والأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد، والأستاذ الدكتور علي المحافظة؛ والأستاذ الدكتور صالح درادكة.. أعمدة الجامعة منذ عقود طويلة، جلسوا إلى جوار رفيق التدريس، يبادلونه احتفالية  الوداع، وأجزم أن قلوبهم كانت تعتصر على مغادرة رفيق دربهم بين أروقة الجامعة في سن العطاء.
في كلمات كالشعر؛ اختلطت فيها الوجدانيات بالواقع بالفلسفة بمسيرة الحياة، لخص لنا الأستاذ الدكتور أحمد ماضي قصة الفلسفة التي بدأ يدرسها منذ العام 1961، عندما أرسله الحزب الشيوعي الأردني لدراسة الطب أو الهندسة في موسكو. لكنه لم يصمد أمام قوة الفكرة وقوة العقل وطموح المعرفة، فغادر كلية الطب بعد أن رأى الجماجم والعظام مكومة في قلب كلية الطب، كما غادر كلية الهندسة، إلى رحاب حب الحكمة، فكان أحمد ماضي الفيلسوف.
صديق الجميع، الذي يصفه صديقنا المشترك الشاعر زياد العناني، والذي يرقد على سرير الشفاء منذ سنتين، بأنه عندما يقبلك يشمك ويتحسس تفاصيلك، لأنه عندما يقبل خدك يكون بصدق يحبك.
أمس احتفل طلبة الدراسات العليا في قسم الفلسفة بأستاذهم، وكان حفلهم تقليدا لم تألفه الجامعة الأردنية؛ لقد وضعوا القواعد الراسخة للاحتفال بعلمائنا وأساتذتنا الذين يفنون أعمارهم في العطاء، ولا يمنون على أحد بعطائهم.
هؤلاء هم رعيلنا الأول من الأكاديميين والعلماء الأجلاء، يعطون ولا يأخذون، يُفنون ولا يَفنون، لأنهم ببساطة فكرة، والفكرة تعني ديمومة، فهل يستوعب الديمومة من يتعلق باللحظة الفانية؟ بالتأكيد لا يستوعبها.
في حديثه لرئيس الجامعة عندما صدر قرار إقالته، يقول صديقي الفيلسوف للرئيس إن قدراته العقلية ما تزال تعمل مئة بالمئة، وقدرته الجسدية من خمس وسبعين إلى ثمانين بالمئة. لكن الكفة رجحت لصالح الخمسة والعشرين بالمئة، وخسرت الجامعة المائة وخمسا وسبعين بالمئة.
سن العطاء يا سادة لا يحدد بسنوات، ووهم السن خلقناه نحن لنهرب من مسؤولياتنا تجاه أنفسنا ومستقبلنا ووطننا.
كنت أعتقد أنني الوحيد الذي يرسل له الصديق الفيلسوف رسالة نصية مبكرا مبديا إعجابه بالمقال المكتوب أو نقده لفكرة فيه، وقد كانت دهشتي كبيرة عندما فتح الأصدقاء من الكتاب صندوق الذكريات، وقالوا إنه يصبحهم بالرسائل النصية لإبداء الإعجاب بما يكتبون. هذا هو المثقف الفيسلوف المتابع أحمد ماضي!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جهاد المحيسن