نحن أمام جيل جديد من حركات الاحتجاجات الشعبية العربية، مع ميلاد حركة "تمرد" المصرية، وما استطاعت إنجازه خلال فترة وجيزة، باعتبارها الشرارة التي أشعلت ما يوصف بالثورة الثانية التي شهدتها مصر، وأدت إلى تدخل الجيش وعزل الرئيس السابق. فيما شهدت الأيام التالية للحادثة المصرية تداعيات عربية على طريقة الربيع العربي؛ إذ سرعان ما انتشرت حركات مشابهة تحمل نفس الاسم في بلدان عربية أخرى، ما يستدعي التساؤل عن السياق السياسي والثقافي لهذه الحركات، وما الفرص المتاحة أمامها لإنجاز مهامها في التغيير. والسؤال الأهم: هل يوجد لهذه الحركات عمق ديمقراطي حقيقي؟
انطلقت حركة "تمرد" المصرية من ميدان التحرير في نهاية نيسان (أبريل) الماضي، وأعلنت عن مهمتها بوضوح بالعمل على سحب الثقة من محمد مرسي، رئيس الجمهورية السابق، والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة. واعتمدت الحركة في إسباغ الشرعية على هذا المطلب على جمع تواقيع المواطنين التي وصلت إلى ملايين، وشكلت أداة التعبئة والحشد الشعبيين اللذين انفجرا بالشكل المعروف في ثلاثين حزيران (يونيو) الماضي. وقدمت الحركة ضحايا في الأحداث التي تزامنت مع عزل الرئيس وما تبعها. 
زامن ذلك أيضا الإعلان عن حركات مشابهة في كل من تونس، والبحرين، وسورية، وفلسطين، والمغرب، والسودان، حيث قامت كل من هذه الحركات بإعلان برنامجها وجدول مطالبها وخططها التصعيدية. وأهم ما توصف به هذه الحركات هو اعتمادها الأساسي على عناصر الشباب، وقدرتها الكبيرة على الحشد والتعبئة على مستوى القواعد الشعبية، كما القدرة على التنظيم وبناء التحالفات. وعلى مستوى الخطاب، بدت واضحة في التجربة المصرية القريبة القدرة على التجدد وممارسة النقد الثقافي والسياسي.
لا شك في أن المجتمعات العربية لم تعرف خلال العقود القليلة الماضية إلا مظاهر الاحتجاج العنيف في التعبير عن التنازع مع السلطة. ولا يوجد شك في أن الحركات الاجتماعية السلمية الجديدة كشفت بدورها عن أزمات حقيقية في المجتمع السياسي، وعبرت بقوة عن إفلاس الأحزاب السياسية العربية وأزمتها الخانقة مع الجماهير، حينما عجزت عن تصعيد مطالبها وتحويلها إلى أفعال سياسية. كما عبرت هذه الحركات عن إفلاس أنوية المجتمعات المدنية وفقرها السياسي والمجتمعي. وبالتالي، كشفت هذه الحركات عن إمكانية البحث عن مجال سياسي عام جديد، يستوعب مضامين سياسية واجتماعية جديدة، وأدوات مختلفة للتعبير عن مطالبها.
الحركة الاحتجاجية الكبرى الجديدة تطلق مشروعاً مجتمعياً للتغيير السياسي والثقافي أيضا، يبنى على قاعدة شعبية حقيقية، لها برنامج عمل لا يمكن الاختلاف حول خطوطه العامة؛ يلتقي حوله الجميع في المقاومة السلمية للظلم السياسي ومصادره المتفرعة في الظلم الاجتماعي والثقافي، وتشتق رموز هذا النضال السلمي من الثقافة المحلية ومن ذاكرة الناس وهمومهم وأشواقهم.
ولكن مع التقدير لكل الاعتبارات السابقة، يبقى العمق الديمقراطي لهذه الحركات هو المحك؛ فهل تمارس الإقصاء ذاته الذي مارسته القوى التي سيطرت على الموجة الأولى من الربيع العربي؟ إلى هذا الوقت، لا توجد مؤشرات مطمئنة على مدى الولاء للقيم الديمقراطية لهذه الحركات. في التجربة المصرية، صحيح أن من حق الثورة البقاء في الشوارع لحماية شرعيتها، ولكن على أي أساس؟ وهل تنسحب هذه الممارسة على حماية الديمقراطية من التدخل العسكري؟ وهل كان للحركة مواقفها في الشارع من الإعلان الدستوري الأخير على سبيل المثال؟ في نهاية الستينيات من القرن الماضي، ظهرت حركة التمرد الكبرى في فرنسا، والتي أشعلها الشباب وطلبة الجامعات الذين كانوا يطالبون بالتغيير في كل شيء؛ في السياسة والثقافة والاقتصاد. لكن التقاليد والعمق الديمقراطيين أوصلا الجميع إلى الاستمرار بالولاء للقيم الديمقراطية، وقبل الجنرال ديغول التغيير ولكن بأدوات ديمقراطية.
الدرس الذي لم نتعلمه من ثورات الجيل الأول من الربيع العربي هو أن شرعية الشارع لا تعني بالضرورة الشرعية الديمقراطية. لذا، نفسر اليوم كيف تتمرد الثورات على نفسها، وكيف مورس الإقصاء والاحتكار السياسي باسم الديمقراطية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد