ثمة أسئلة مشروعة حول علاقة الفقر والتهميش بإنتاج التطرف. في التاريخ القريب، توجد علاقة طردية واضحة بين غياب العدالة الاجتماعية والإقصاء السياسي والتهميش الاقتصادي من جهة، وبين نمو فكرة الاحتجاج والتمرد من جهة أخرى. وهذا الأمر ليس باكتشاف جديد، لكن الذي يستحق التفكير بشأنه في الأحوال العربية، هو العلاقة بين الإنتاج وبين التطرف؛ كيف أفرغت النظم السياسية العربية، على مدى ستة عقود، المجتمعات العربية من قواعدها الإنتاجية، واستبدلتها بـ"القاعدة" والتنظيمات والأفكار المتطرفة.
القاعدة الذهبية تقول إنه كلما طورت المجتمعات قواعد إنتاجية حقيقية، وانتقلت إلى اقتصادات محلية قائمة على الإنتاج والتبادل السلعي التكاملي، ضيق ذلك فرص نمو الصراعات المحلية؛ حيث تتعاظم المصلحة المجتمعية التي تصبح أساس بناء ثروات المجتمعات. وكلما ضيقنا الصراعات المحلية، حاصرنا التطرف أكثر، لاسيما إذا ما علمنا أن الأرياف والمجتمعات المحلية هي الخزان الذي طالما أنتج الأفكار المتطرفة حينما تم إفراغه من الإنتاج الحقيقي.
ونحن في صدد تطوير سياسات عامة جديدة في مجال تنمية المحافظات، فإننا في أمسّ الحاجة لإعادة اكتشاف التنمية الريفية الشاملة، القائمة على الاقتصاد الإنتاجي الفلاحي الذي يُنتجه الناس من خلال بيئاتهم المحلية، بما توفره من موارد، وبما يتوفر لديهم من معرفة تقليدية قابلة للانفتاح على الموارد والمعرفة المعاصرة. فقد أثبتت المعرفة التقليدية لدى السكان المحليين، في جهات عديدة من العالم، تفوقها على مراكز التحديث ونقل التكنولوجيا الزراعية، واسألوا في ذلك برامج ومنظمات الأمم المتحدة.
إعادة اكتشاف التنمية الريفية في الأردن أولوية وطنية، ليس بمناسبة العودة للحديث عن تنمية المحافظات، بل استجابة للتحولات العالمية الراهنة. فقد دُرنا في الاندماج بالاقتصاد العالمي دورة أرهقت أعصاب البلاد، وآن الوقت للتقدم بسياسات تقوم على الإنتاج الحقيقي الذي تجسده التنمية الريفية بمفهومها الواسع؛ أي إعادة الاعتبار للاقتصاد الريفي الذي تشكل الزراعة أحد مدخلاته، وليس كل ما فيه.
التنمية الريفية القائمة على الإنتاج الفلاحي، تقوم على دورة الاقتصاد الرأسمالي الموجه والمنضبط، ولا تحتاج إلى اختراع رأس المال ولا الحرية الجديدة، ولا حتى اليد الخفية، لكي تأتي العدالة الاجتماعية. وهذا النمط من التنمية يقوم على الإنتاج الفلاحي الذي يوفر حدا معقولا من الاكتفاء الذاتي، ضمن مجال اجتماعي وفضاء ثقافي عرفه الأردن في مراحل تاريخية سابقة، وتشهده مجتمعات عديدة في أكثر دول العالم تقدماً. هذا النمط من التنمية هو الدرع الثقافي والاجتماعي الحقيقي في وجه ثقافة الاستهلاك الجائرة، وثقافة الإعالة المقابلة.
يجب أن نعترف أن التشويه الذي لحق بالنظرة للتنمية الريفية أساسه النظرة الاقتصادية للزراعة باعتبارها قطاعا معالا أكثر من كونه قطاعا إنتاجيا يقدم قيمة مضافة للاقتصاد. وعلينا أن نقف عند حقيقة أن أكثر من 70 % من القطاع الزراعي يديره رجال أعمال وشركات، لا يقدم أي قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، بل يذهب إليه الدعم المفترض أن يذهب للمزارعين. وعلى سبيل المثال، نجد أن 55 % من الإنتاج الزراعي يتركز في الإنتاج الحيواني. وفي هذا القطاع الصارخ بالمشاكل، تغيب قراءة الأرقام بأن جل هذا القطاع يتركز في الدواجن، حيث يستثمر فيه حوالي مليار دينار أردني، ويشمل حوالي 15 ألف عامل يكاد يكون أغلبهم غير أردنيين؛ بمعنى أن هذا القطاع يفتقر لأي قيمة اقتصادية اجتماعية، كما هو الحال في الشركات الزراعية التي زاحمت صغار المزارعين في طول البلاد وعرضها.
العودة الى بناء قاعدة إنتاجية، هي أساس لميلاد مجتمعات جديدة، وحياة جديدة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد