لم تكن فكرة الدولة، في يوم من الأيام، واضحة أو متبلورة في الوعي الاجتماعي العربي، بشكل ناضج وموضوعي. وازدادت هذه الفكرة تشوها وضعفا مع المآلات التي تصل إليها الثورات والتحولات العربية منذ ثلاث سنوات. في المحصلة، لم نصل إلى حسم مسألة أن الدولة هي الكيان المؤسس لإدارة مصالح المجتمع وليس مصالح النظام السياسي، وأنه من دون إنضاجها والتوافق حولها لا يمكن أن نجسد مناهج ديمقراطية وغنى سياسي مجتمعي في طريقة إدارة هذه العلاقات والمصالح، وما تزال فكرتا "إسقاط النظام" و"إعادة بناء النظام" أكثر هيمنة وإثارة للأشواق السياسية من فكرة بناء الدولة.
ليس غريبا هذا الالتصاق التاريخي بين النظام السياسي والدولة. فقد نمت خبرة تاريخية على امتداد أكثر من ستة عقود طالما كانت تُلصق الدولة بالنظام السياسي القائم. وعلى الرغم من أن معظم المجتمعات العربية، وبفعل نخبها، مارست رياضة سياسية بتغيير النظم السياسية، إلا أنها كانت تتصور أنها تعيد بناء الدولة من جديد، وهنا وقعنا في الإرباك الذي نعيشه اليوم بين "عميل النظام" و"مصلح الدولة". ونتيجة ضيق الرؤية، أصبح مصلحو الدولة يتوارون في الخلف، خوفا من شبهة العمالة للنظام في مجتمعات لا تميز بين النظام والدولة.
فكرة الدولة العميقة مأخوذة من الأدبيات السياسية التركية الجديدة، وتشير بشكل مباشر وغير مباشر إلى وصف حالة خاصة هي الأتاتوركية التي تجمع بين العلمانية والتسلطية والعنصرية التركية ضد الكردية. وهو سياق لم تشهده المجتمعات العربية، بل ما يمكن أن نصف السياق التاريخي للكيانية العربية الحديثة بالكيانية الناقصة، أو الدولة الناقصة والمشوهة. فالكيانات التي نشأت على شكل أنظمة ملكية ليبرالية قبل الاستقلال السياسي، سواء في مصر أو العراق وغيرهما، لم تقوَ على تعميق فكرة الدولة، على الرغم مما صاحبها من تقاليد الدول.
محنة الكيانية العربية بعد مشروع الاستقلال بقيت أسيرة ثلاثة تيارات أو قوى ما تزال تتصارع إلى هذه اللحظة على المستقبل.
تياران يلغيان مبدأ الدولة الوطنية، ولكنهما على استعداد لتوظيفها مرحليا، وهما التيار الإسلامي والتيار القومي. أما التيار الثالث، فهو النخب التي تمثل الأنظمة التي حكمت على مدى ستة عقود في معظم الكيانات العربية تحت عناوين "الدولة الوطنية". وهو تيار جاء عمليا باسم الدولة الوطنية، لكنه الأكثر تشويها لها.
محنة الدولة اليوم تبدو في أشد صورها، حينما خدمت التحولات والظروف الراهنة العودة إلى الصراع بين التيارات الثلاثة من دون أساس متين لظهور كتلة عريضة من الجميع؛ تؤمن بالدولة الوطنية الديمقراطية، وتعمل على تدشينها، ما يكشف حجم فجوة التقدم الاجتماعي والثقافي التي تعاني منها المجتمعات العربية.
إن السؤال العربي في زمن التحولات غير المسبوقة، أي سؤال تعثر التاريخ في هذا الجزء من العالم، يحفر عميقا في الثقافة العربية المعاصرة، وفي مدى قدرة هذه الثقافة على بناء مواقف جديدة واتجاهات صديقة لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التي تحسم الخلاف على القيم، وتتصالح مع التاريخ ومع الحاجة إلى التغيير.
في العالم العربي المعاصر لا توجد دول عميقة؛ فالكيانات السياسية الهزيلة تذهب ويذهب معها كل ما جاءت به في رمشة عين، فيما تبقى الثقافة المجتمعية المعاصرة التي غرستها عوامل تاريخية طويلة، ومدد من التجهيل والفقر والعوز. وهي ثقافة مسكونة بالخوف والوهم ورفض التغيير، والشك والريبة والفردانية والانغلاق. وهذه هي قيم الممارسة السياسية العربية المعاصرة، وبما ما يفسر طبيعة الصراعات القائمة حاليا في زمن التحولات.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد