من باب النقد والنقد الذاتي، تجدر الإشارة إلى أنه لا بد من تسليط الضوء على ما يدور في العالم العربي من احتراب داخلي تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى البنية الاجتماعية التي أفرزت، هي ذاتها، شكل السلطات الحاكمة من جهة ونسق تدينها وعاداتها وفوضاها من ناحية أخرى.
وعلى هذا النسق الذي يتبع نظرية الفيزياء في فوضى العناصر، استطاع الغرب أن يؤسس خطابه لهدم وحدة المجتمعات العربية التي قدرها على مر التاريخ ان تكون مجتمعات فسيفسائية في أديانها وأعراقها وإثنياتها المختلفة، فيوجد في هذا العالم المختلف العناصر كما في الفيزياء هذا الكم التنوع: السني والشيعي والنصيري والدرزي والخارجي والإسماعيلي والصابئي، بالإضافة للمسيحي الكاثوليكي والبروتستانتي والأرثوذكسية الشرقية والأرثوذكسية المشرقية، واليهود، وكذلك البربر والأكراد والأرمن وغيرهم من تلك الهويات.
ورغم أن هذا التنوع دلالة حضارية تاريخية، إلا انه في العقود الأخيرة من عمر الشقاء في الأمة وعلى الأمة أصبح مدخلا للعبة الأمم في ما عرف "بالفوضى الخلاقة"، بعد غزو العراق واحتلاله وتدمير بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تلك النظرية تعتمد أساسا على علم الفيزيائيات لتفكيك الدول والمجتمعات، فبحسب كتاب جايمس غليك "نظرية الفوضى: علم اللامتوقّع"، يقول "سعت نظرية الفوضى إلى صوغ معادلات رياضية بسيطة تشرح ظواهر كبرى عنيفة، فرصدت ظاهرة قوامها أن حدوث تغيّرات بسيطة في المعطيات الأوليّة التي تتعامل معها تلك المعادلات تفضي إلى نتائج هائلة عند الحساب النهائي، وسمّت نظرية الفوضى تلك الظاهرة "الاعتماد الحسّاس على المعطيات الأوليّة".
وسرعان ما اشتهرت باسم "أثر جناح الفراشة" التي تعكس مقولة اشتهرت في بداية تطور النظرية مفادها أن رفّة جناح فراشة في مكان ما من العالم قد تتسبب في حدوث إعصار في مكان بعيد عنه.
من هنا تبرز قوة اللامتوقع عبر تفكيك العناصر وجعلها تنجذب نحو ما يشابهها، ثم ما يلبث أن يتفكك المتشابه والمنسجم إلى أجزاء وعناصرأخرى. وفي هذا السياق تبرز الهويات الفرعية والطائفية كما يحدث الآن في العالم العربي، حيث يحل القتل والخراب على أساس هذه النظرية الفيزيائية التي طبقت سياسيا وعسكريا على مجتمعاتنا التي تفتقد للرؤية النقدية والتاريخية لطبيعة ما يدور من صراع في المنطقة.
فانقسمت نخبها السياسية والثقافية، بغض النظر عن خلفيتها السياسية والإيديولوجية، وأصبحت جزءا رئيسيا من هذا الصراع المحموم الذي تسيل الدماء فيه في مصر والعراق وليبيا وتونس وسورية ولبنان، والحبل على الجرار، طالما أن العقل والعقلانيين النقديين في غيبة كاملة عن صورة المشهد الفيزيائي الذي عمل في معامل الغرب، وتم تمويله من المال النفطي، الذي ستطاله كذلك حمى الفوضى والموت نتيجة لذات المعطيات التي حكمت المجتمعات الأخرى. وللخروج من المأزق الدموي الذي تحمله فراشات الموت، وجب النظر بشمولية تتجاوز نظرية الفوضى الفيزيائية، التي تؤسس لتجمعات انقسامية تحمل في جوهرها نهايتها المأساوية على رفة جناح فراشة!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جهاد المحيسن