قبل أن ينتشر الرديء في الثقافة والأدب والشعر والغناء والفكر، وعندما كانت الأمة على قلب رجل واحد؛ على الأقل في مسألة الوحدة وتحرير فلسطين، نبت الكثير من المبدعين على كافة الصعد، وبدا أن الحال سيكون أفضل من سابقه زمن حكم المستعمر الأوروبي وسابقه العصملي!
ثم ما لبثت هذه الأحلام أن تهاوت، على صخرة البترودولار وثقافة التغريب والارتهان لسطوة الولايات المتحدة الأميركية، ومعها سقطت المعايير التي تحكم الذوق العام، وأصبح الفن كما يقول عنه النقاد المشتغلون به "ارتكازا آنيا لفعل الواقع"، انساحت ثقافة الرداءة في الصوت وفي اللحن وفي الكلمات، وبات الذوق العام مشوها، وتابعا لمنظومة القيم التي بدورها تخلخلت، حتى بات في حكم المؤكد أننا في طريقنا للضياع  والاندثار لولا النفر القليل المتبقي من عمالقة الزمن الجميل.
وديع حكاية خلود في زمن لا مكان فيه للرديء أو الضعيف، حط وديع بصوته كعنقاء نثرتها الريح على العمالقة، جبلا كجبل "صنين" في لبنان، وديع راعدات سماء شجية ما تزال تجلجل في العالم العربي، وثبتت اسمها على خلود الأيام.
على الله تعود على الله! الزمان العام 1993، المكان سفينة تمخر البحر الأبيض المتوسط، وتحيي مدن الله الساحلية، التي لها في هذا البحر ألف ألف حكاية وحكاية، وقيثارة الشرق تشدو ما بين الموجة التي تتهادى على سطح البحر طربا للصوت العذب الرجولي الحنون، ككل أهلنا في شامنا العظيم.
كنت في أول عشق لي "لرنا"، التي اصبحت فيما بعد زوجتي، كان صوته يطالبني بالعودة خلافا لما اعتدته من حب الرحيل الطويل، وديع فقيد لنا كفقدنا للزعيم الخالد جمال عبدالناصر، وللثائر الراحل غيفارا، ولكل مبدع في حقله، فالمغنون المبدعون، أصوات نادرة من الصعب أن تتكرر، و"وديع الصافي"، من هذه  الأصوات التي تتردد أصداؤها على كل موجة، وتذكّر بأن الخلود، قصة أغفلتها "أسطورة جلجامش".
 قبل أن تنزع ذوقنا أغنيات التحريض والتقسيم، التي نسمعها عبر الإذاعات المحلية، كان لنا في الأردن مكان  تحت السماء في هذا  الذوق الرفيع واللحن الجميل والصوت الندي، قبل مدة وجيزة في ذكرى عيد ميلاد موسيقار الاردن الراحل توفيق النمري جاء جبل صنين بكل كبريائه وديع الصافي، وغنى أغنية توفيق النمري "ويلي محلاها"، ولكن هذه المرة بعد مرور اربعة عقود من غنائه لها في أول مرة، ونقول على الله تعود بهجتنا والأفراح على الله وتغمر دارنا الأفراح على الله!
وديع في صوته سحر كسحر الشرق، ونداء بوح يبقى شامخا لا تفنيه عاديات الأيام، يذكّرنا بأن المنغمسين في ثقافة الظلام لا مكان لهم، وأن من لم يسمع في صباحه فيروز ووديع ونصري، ولم يقرأ رواية أو ديوان شعر فهو مشروع قاتل!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جهاد المحيسن