"البلاغة هي الضوء الذي يجعل الذكاء يشع".. شيشرون.
في حفل تأبين فقيد العالم ورمز محاربة العنصرية، نلسون مانديلا، ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما خطاباً ينبع من أعماق قلبه، وتلونت الكلمات والعبارات، وكادت أن تكون سحراً خالصاً، وكأن الرجل عاش مع مانديلا في زنزانة. لم يُغفل أدق التفاصيل عن معاناته ومعاناة السود من نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد"، الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من العام 1948 وحتى تم إلغاء هذا النظام بين الأعوام 1990-1993. وكان نظام "الأبارتهايد" البغيض يهدف إلى خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية.
فقد عملت قوانين "الأبارتهايد" على تقسيم الأفراد إلى مجموعات عرقية، أهمها: السود، والبيض، والملونون، والآسيويون المكونون من هنود وباكستانيين، وتم الفصل بينهم. وبحسب قوانين "الأبارتهايد"، اعتبر أفراد الأغلبية السوداء مواطني بانتوستانات "أوطان" ذات سيادة اسمية، لكنها كانت في الواقع أشبه بمحميات الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأميركية.
هذا الحسّ الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي في حفل تأبين الراحل مانديلا، ينبع من روح تعي معنى المعاناة. وبدا أوباما كرجل سحقته الممارسة العنصرية، وأنه يعيد إنتاج حياة ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة، والعذابات التي واجهها هؤلاء الناس من قبل الرجل الأبيض، وذَكر بكل اعتزاز جذوره الأفريقية، ونضال الزعيم الأسود مارتن لوثر كينغ ضد التمييز على أصول عرقية في الولايات المتحدة الأميركية.
ما ورد على لسان سيد البيت الأبيض كان تعبيرا عفويا، يستذكر تاريخية الفصل العنصري. ويخيّل لسامع الخطاب أن المتحدث خطيب روما شيشرون؛ خرج من قبره ليعدد مناقب الفقيد. وكانت حماسة أوباما ونقده الشديد للأنظمة العنصرية، وكأن الفقيد الذي يؤبَّن نلسون مانديلا، قد خرج من نعشه، ومعه تاريخه وسنوات سجنه الطويلة، وعذابات شعبه!
لغة الخطاب للرئيس الأميركي لغة لم نعهدها من رجل أبيض على الإطلاق في نقد العنصرية والظلم وغياب العدالة. ولكننا سمعناها من الرجل الأسود الذي يحكم في بلد أبيض، تأسس على نبذ الملونين، وقتل السكان الأصليين "الهنود الحمر"!
خطاب يحمل مضامين عميقة، تدعو للحرية والمساواة والعدل. ولكن نسي سيد البيت الأبيض وشيشرونه أيضا، أنه في الحرب تصمت القوانين كذلك. فعندما يتعلق الأمر بمصالح الولايات المتحدة، فإن خطاب الوجدانيات والمشاعر لا يجدي نفعا، ويصبح حديثا غير ذي جدوى. ونحن في هذه الرقعة من العالم، نعاني من جور وظلم وعدم مساواة وغياب العدالة.
لذلك، كان من الأجدر بالرجل الأميركي الأفريقي وهو يعدد مناقب عدو العنصرية نلسون مانديلا، أن يتطرق في حديثه الوجداني والبليغ إلى معاناة الشعب الفلسطيني؛ الذي يعاني ما يعاني من وجود الاحتلال الإسرائيلي، حتى يكتمل عقد كلماته البليغة، ونقتنع أنها خارجة من القلب ضد كل أشكال التمييز في العالم!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جهاد المحيسن