"إننا ما نزال نناقش نقطة التوازن الصحيحة منذ القرن التاسع عشر، وربما سنفعل ذلك لوقت طويل بعد القرن الحادي والعشرين أيضاً" (توماس بيكيتي، "رأس المال في القرن الحادي والعشرين").
منذ عقود طويلة والمجتمعات تحاول أن تخرج من عباءتها التي فرضتها عليها العادات والتقاليد والدين والسلطة. ولكن بقيت هذه المجتمعات مجتمعات وظيفية، وركنت واستكانت لهذا الدور، عبر مؤسسات القمع التي ولدتها المنظومة المتكاملة للسلطة ورأس المال، وبقي الجدل المعرفي ينشط في جذور الرأسمالية، عبر الحوار المعرفي الممتد منذ الماركسية وحتى هذه اللحظة في الفكر العالمي، وخصوصا في الغرب الذي يعيد إنتاج المعرفة وفقاً للسياقات التي تفرضها حتمية التطور.
لكن هذه السياقات تراوح مكانها في مجتمعاتنا "النيئة"، التي لم تحدد طريقها وفق البناء الوظيفي الذي فرض شروطه عليها، ولذلك تستقر في ذاكرتها الجمعية أفكار الخوف والمصلحة والابتزاز والاتكال على الآخر والشراسة في ردة الفعل وفق سياق ميكانيكي بحت، بحيث يسهل قياسه والتحكم فيه، وضبطه في منظومة سلطة القهر.
هذه المخرجات أدت لولادة الفرد الآلة، ورسخت فكرة الزعيم والقائد، ونشطت أساطير الخلاص الأبدي عبر مجيء المُخلص في آخر الزمان، ما رسخ فكرة العبودية في ذهن الناس، والتي تجاوزها الفكر الغربي على الأقل في سياق الحياة الآنية، رغم أن فكرة المُخلص فكرة عالمية وليست حكراً على العرب، ومنها ولدت أسطورة "الشعب المختار"، و"المدينة الفاضلة"، و"القبيلة الفاضلة" كذلك.
لكن ما العمل؟ وهل يمكن خرق فكرة الخلود الأبدي التي تسيطر علينا؟ ربما نعم، وربما لا، لكن ثمة ضوء في آخر النفق يستدعي الاهتداء به، عبر نقد جذري لمجمل الأفكار التي يفكر بها والتي لا يفكر بها أيضاً، حتى نعيد المساحة للفكر البشري للتخلص منها، ومن هنا يكون الرأسمال الرمزي عبر هذه الفكرة التي تبحث عن الضوء في نفق العادات والأساطير، وتفسح المجال للتخلص من القهر الذاتي الذي صنعته السلطة المطلقة المدججة بسلاح الرأسمالية والتخويف من المستقبل، وليس الخوف على المستقبل. والحالة العربية مثال واضح لهذا النموذج عندما قررت طوعيا أن تكون من مخلفات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، عندما عشعشت فكرة السلطان والجندرمة، ولعب دور الوكلاء لمصالح الدول الرأسمالية، وغابت قيم الإنتاج والتستر خلف العادة والدين وتأسيس فكر متطرف لا يمت لتعاليم الدين بشيء!
بل إن فكرة الارتزاق التي مارسها التاريخ السياسي على مدى أربعة عشر قرناً، بقيت هي التي تحكم سلوكنا ووعينا، وتختلف المسميات ولكن الجوهر واحد؛ إفساد قيم الإنتاج. وبذلك تقدم الرأسمالية حلولها المتوحشة لمزيد من العبودية، ومحو أي فكرة إنسانية يمكن أن تكون نداً لها، والوكلاء في المؤسسات الخاصة والعامة يقومون بتنفيذها بدرجة عالية من الدقة. حتى لو كان ذلك على حمام دماء كما الانكشارية!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جهاد المحيسن