لا توجد لحظة لالتقاط الأنفاس لمجرد وصف ما يحدث في هذا الجزء من العالم. فنحن أمام نهايات غير مكتملة، وحالة من السيولة السياسية غير مسبوقة؛ أي عدم القدرة على إمساك الأحداث من أجل وصفها أو تفسيرها. وهذا الواقع ينسحب على ضياع الأفق، وتشتت البوصلة بين عشرات الملفات الدولية والإقليمية والمحلية التي تشهدها المنطقة؛ من مصير "الربيع العربي"، إلى أفق التسوية السياسية بشأن القضية الفلسطينية التي تراوح مكانها. والوصف الأدق للحالة السياسية في العالم العربي هذه الأيام، هو الانتقال من الفراغ السياسي إلى الإفلاس السياسي.
على مدى نحو أكثر من عقد مضى، عانت المنطقة العربية من حالة فراغ سياسي؛ أي عجز الكيانات والمجتمعات العربية عن إنتاج التاريخ بمعنى التغيير. في المقابل، كانت علاقة هذه المنطقة بالعالم والقوى المسيطرة على النظام الدولي تعيد إنتاج ذاتها مرة تلو الأخرى، على شكل علاقات هيمنة وتطويع واحتواء. كان الخيال السياسي العربي للنخب المثقفة، يبني قصورا على الحل الديمقراطي، وبأنه الباب لحل كل تعقيدات المشهد العربي. وفي العمق، كان الرهان كبيرا على المجتمعات وقدرتها على السيطرة على مصيرها عبر صناديق الاقتراع، في حالة تشبه حلم الثورة وتسليح الجماهير من أجل الخلاص، والتي سادت في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؛ على اعتبار أن زحف الجماهير لن يقف أمامه أي سد أو مانع. كان دعاة حلم الجماهير يرون أن الحل قاب قوسين أو أدنى، كما هي الحال في الرهان على المجتمعات في الحل الديمقراطي. 
الذي يحدث لا يخرج من حالة السيولة السياسية، بل ينقل المشهد إلى زاوية ربما يتضح من خلالها حجم الفقر السياسي الذي تعانيه هذه المنطقة. ويمكن تلمس هذا الإفلاس على ثلاثة مستويات أساسية: أخطرها جميعا، ما يحدث على مستوى المجتمعات العربية التي أديرت المعارك والثورات والقتل الجماعي باسمها ومن أجلها، وباتت اليوم في أبعد نقطة عن السلم الأهلي والتعايش في ستة مجتمعات على أقل تقدير. ثم المستوى الثاني، في علاقة المجتمعات بالكيانات والدول التي لم تشهد منذ عهد الاستقلال حالة من الاسترخاء وافتقاد الثقة كما هي عليه اليوم. والمتوقع أننا أمام مرحلة تحول قاسية وصعبة، ستشهد آلاماً مضاعفة لا أحد يدري (ولا خبرة لدينا) إلى أي حد سوف تحتملها هذه المجتمعات. فالواضح إلى هذا الوقت أن هذه المرحلة تذهب نحو أشكال أخرى من التفتيت والاندماج والنزاعات الأهلية والاقتتال على القيم السياسية، وأشكال باهتة من السيادة أيضا.
أما على المستوى الثالث، وهو علاقة الإقليم العربي بالنظام الدولي والنظم الإقليمية المجاورة، فإن هذه الأخرى لم تشهد سابقاً حالة من الإفلاس السياسي كما يحدث اليوم. فالصراعات المحلية، وحروب القتل الجماعي، باتت تدار محليا ومن دون كلف حقيقية، ولا يوجد ما يبرر عودة التاريخ لهذا الجزء من العالم بتدخل خارجي. والملفت للانتباه أن ما شهدته صراعات القرن الجديد من تدخلات أجنبية، تكاد تنحصر في المنطقة العربية خلال سنوات العقد الماضي، وهو الأمر الذي لم تعد له حاجة في صراعات العقد الثاني، في الوقت الذي أصبحت فيه المنطقة العربية أكبر مستودع بشري للنزوح واللجوء بأشكاله كافة، وبمختلف دوافعه. وبينماً تزداد وتتعاظم ظاهرة اللاجئين، وتُغلق أمامها كل نوافذ الحلول، تزداد مشاكلها في المجتمعات المحيطة، وتزيد مشهد الدولة الوطنية ضعفا وتعقيداً.
حالة الافلاس السياسي مستمرة من دون أفق. ولن تلمس المجتمعات خطورتها وآثارها بشكل مباشر إلى أن تظهر نتائجها الاقتصادية والاجتماعية؛ هناك فقط يبدأ التاريخ إما بالعودة إليها أو بالخروج منها.
 

المراجع

alwakeelnews.com

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد