بين نتائج الانتخابات الجزائرية الأخيرة والانتخابات المصرية المنتظرة، يبرز سؤال محير: هل يتم تصنيع الديمقراطية في العالم العربي، أي إنتاج سلطة سياسية تقليدية بأدوات جديدة؟ حيث أصبحت أولوية الأمن والخلاص الفردي أقوى من كل الاعتبارات الأخرى.
الخوف الحقيقي أن تتحول الانتخابات على الطريقة العربية من أداة للتحول بالمجتمعات والأنظمة نحو تقاليد الحياة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، إلى أداة لتعقيد المشهد السياسي المحلي في كل دولة، وإضافة المزيد من الأسباب والمبررات التي تغلق الأفق السياسي؛ بمعنى آخر، جر المجتمعات السياسية إلى حكمة الاستسلام للوضع الراهن، وتسويغها بأنها أفضل من حمامات الدماء، والوصول إلى قناعة بأن ثمن التغيير أكبر مما يمكن أن تتحمله المجتمعات. والاستنتاج البديهي الذي تنتهي إليه هذه القراءات هو أن الديمقراطية، باعتبارها حالة من الوعي السياسي المجتمعي والمعرفة المقرونة بالممارسة وبالقيم الكبرى، لم تنضج بعد في مجتمعات تشهد أنماطاً من السلوك السياسي والعنف.
يقودنا هذا التصور غير المكتمل إلى تتبع أشكال التعبير الدائرة حول الممارسات الديمقراطية، كما بدت بشكل جلي في موجات الانتخابات العربية الأخيرة. ويمكن التوقف عند أربعة مظاهر أساسية توضح مضمون الممارسة الديمقراطية الراهنة. 
أولها، أن حجم المشاركة ما يزال متدنيا، ولا يعبر عن وعي مجتمعي حقيقي بأهمية تمكين الناس من حسم مصيرهم السياسي. كما يعبر حجم المشاركة أيضاً عن عدم الثقة بصناديق الاقتراع وبالنخب السياسية التي تتقاتل حولها. وبالمعنى الاجتماعي، يمكن إرجاع هذه الواقعة إلى أكثر من قراءة، أهمها أنه بالرغم من كون العرب أكثر شعوب العالم انشغالاً بالسياسة، والتي تدخل إلى تفاصيل حياتهم اليومية، فإنهم أقل المجتمعات ممارسة لها. بكلمات أخرى؛ إن الناس هنا لا يملكون إرادة الفعل السياسي، فهم فعلياً الأقل ممارسة للسياسة، وثمة قطيعة واضحة -دشنتها عهود من الإقصاء والمنع والاستبداد- بين الكلام حول السياسة من جهة، وبين ممارسة السياسة من جهة أخرى.
المظهر الثاني يتمثل في الدافع وراء المشاركة السياسية، كما كشفته موجات الانتخابات العربية الأخيرة، والنزاعات الاجتماعية الأولية؛ الطائفية والعرقية والجهوية. والسؤال في هذا السياق: هل تعمل الانتخابات على إحياء النزاعات الاجتماعية الأولية، بدلاً من الارتقاء بالمجتمع نحو الإصلاح والتقدم؟ أم أنها تعبر عن مشكلة حقيقية من ميراث عهود الأنظمة السابقة، ترتبط بأولوية الاندماج الاجتماعي على التعامل السياسي؟
لو توقفنا عند هذا المفصل التاريخي، فإننا نتساءل مرة أخرى: هل الانتخابات وأدوات الديمقراطية الأخرى تكشف لنا بالممارسة أن الدولة العربية عليها متطلبات سابقة، أهمها الاندماج الاجتماعي؛ وأنها تحتاج أدوات الديمقراطية وأدوات السلطة معا. وإلا، كيف تعمل صناديق الاقتراع في العراق في كل مرة، على إعطاء حقنة حياة جديدة لإطالة عمر العنف؟
المظهر الثالث لمأزق الانتخابات العربية يخرج من صلب الأزمة الثقافية العربية، ويكشف بشكل واضح مأزق الحيرة حول القيم الكبرى في السياسة. وهي أزمة تتجاذبها الأنظمة والمجتمع معاً، وكأنها في كل مرة، وبالممارسة، تُرجعنا من جديد لاختراع البدهيات والمسلمات. وهذا الأمر لا يتوقف عند حجم توظيف المال السياسي الفاضح في الانتخابات، والرشاوى التي تنهال من كل الاتجاهات؛ بل يشار أيضا إلى جذور ممارسة العنف التي تعبر عن إفلاس ثقافي من نوع آخر بكل أسف.
أما المظهر الأخير، فهو أزمة الخوف المتبادل بين تعبيرات الدولة الدينية والدولة المدنية، والتي عبرت عنها الانتخابات العربية في واحدة من أوضح صورها؛ خوف متبادل من الإقصاء باستخدام الأصول الثقافية والعمق المجتمعي، وتبادل أشكال العنف المادي والعنف المعنوي معاً.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد