كرة التغيير في ملعب الجميع

مسار الإصلاح السياسي على هدي خريطة الطريق التي شرحها الملك في خطاب العرش، لن يكون مساراً مفروشا بالورود أمام روّاد التغيير الحقيقي، والذي من المفترض أن يضمن الاستقرار، ويرمّم الثقة، ويوقف تدهور هيبة الدولة.
التردد والتشكيك لا يأتيان من فراغ. فنوايا التغيير وحدها لا تكفي لكسر لعبة عودنا عليها المسؤولون، عمادها "الدوران في حلقات مفرغة غير متصلة"، لشراء الوقت والإبقاء على سياسة الأمر الواقع. كما أن المعضلات التي تقف في وجه إعادة هندسة الحياة السياسية ضمن إطار متدرج ذي مخرجات محددة، لا يمكن الاستخفاف بها.
فالإصلاح يتطلب رؤية مدعومة بأدوات تنفيذ قوية، ومؤسسات مؤمنة بالتغيير، ومجتمع ديناميكي، وتوافق مجتمعي.
وفي المحصلة، قد لا تتطابق حسابات البيدر مع الحقل.
هناك تساؤلات، مثلا، حول قدرة الدولة على حشد تيار التغيير صوب نقطة التحول، في غياب تجانس أدوات الدفع المطلوبة.
وهل سيشكّل مجلس النواب الجديد -الذي أفرزه قانون إقصائي حافظ على سياسة الأمر الواقع مع رتوش إصلاحية- حاضنة ملائمة لمفهوم "الحكومة البرلمانية" التي يسعى إليها الملك؟
أضف إلى ذلك صعوبة التخلي عن نظام الفرد في مجتمع أبوي، والتعامل بطريقة خلاّقة مع معادلة "الجغرافية والديمغرافية" الحسّاسة؛ إلى جانب صعوبة معالجة التظّلمات الاقتصادية ومأسسة الحاكمية الرشيدة، ووضع ضوابط وتوازنات للفصل بين السلطات، وتغيير نمط العقلية السياسية السائدة، والموروث الاجتماعي ومنظومة القيم الجامعة.
الأزمة السياسية التي تكشّفت مع دخول الأردن على خط ما يسمى "الربيع العربي"، وضعت القصر أمام خيارين: إما قيادة عملية إصلاح طوعية على مراحل، وفق ضوابط واضحة بشخوص موثوقة تضمن المخرجات المطلوبة؛ أو ترك عملية التغيير لتتكشف في الشوارع، وفرض نفسها بقوة الحراك والاعتصام. فاستمرار الوضع القائم لم يعد ممكنا أو مقبولا.
وفي غياب إصلاح عملي بديل، يبقى البرنامج الملكي الأقوى في الميدان، بعد أن نجحت الدولة في إعادة ترتيب أوراقها، وتطبيق حزمة إصلاحات تعتقد أنها مناسبة لتقوية مكانتها الأخلاقية والشرعية في الداخل والخارج، وضمان أمن الأردن واستقراره.
ويبدو أن الملك قرر السير في خيار "الإصلاح الآمن والمتدرج"، انطلاقا من "حكومة أغلبية برلمانية" مدعومة بائتلاف كتل، تقابلها معارضة برلمانية بمثابة حكومة ظل تحمل برنامجا موازيا جاهزا، على غرار ديمقراطيات غربية حقّقت ذلك بعد عقود من الصراعات الداخلية. أما الأردن، فلن يلمس ذلك التحول بين ليلة وضحاها، أقله بسبب ضعف الأحزاب داخل البرلمان وخارجه.
اليوم، يعكف الملك على تحقيق استقرار نيابي وحكومي، بما يتيح العمل في مناخ إيجابي لأربع سنوات، طالما ظلّت الحكومة تحظى بثقة مجلس النواب وحافظ هذا الأخير على ثقة الشعب. 
التغيير المنشود يتطلب عملية قصيرة، ومتوسطة، وطويلة الأجل لتهيئة البنية اللازمة لقيام مجتمع ديمقراطي يتمتع بسلطات غير متداخلة، في إطار مساءلة شفّافة وحقيقية. وهو تغيير يضمن دولة المواطنة والمساواة، مدعوما بنظام اقتصادي توافقي يعالج الهوة السحيقة بين الغني والفقير. 
إنجاز المرحلة الأولى من الخطة الملكية يستغرق بضعة أشهر، من بينها تحويل مجلس النواب إلى حاضنة "للحوار الوطني"، وبخاصة مع الأحزاب السياسية التي قاطعت الانتخابات النيابية الأخيرة، ومع "مجاميع الحراك"، ومع بيروقراطية الدولة، وصولا إلى خلق التوافق المطلوب حول أردن الغد.
وعلى المجلس، وفق الخطة الملكية، تحديث نظامه الداخلي، وتطوير مدونة سلوك ملزمة، لمأسسة ممارسات نيابية إيجابية تساهم في تعزيز دوره الرقابي والتشريعي، وتجعل التنافس على خدمة المصلحة العامة أساس علاقته بالحكومة.
لكن سن التشريعات المطلوبة لإحداث النقلة السياسية سيتطلب عامين على الأقل، وفي المقدمة قانون الانتخاب، وتعديلات على التشريعات التي تأثرت بالتعديلات الدستورية. تلي ذلك قوانين ملّحة تخاطب طموحات المواطنين، وأهمها: الكسب غير المشروع، والتقاعد المدني، وضريبة الدخل التصاعدية، وقانون المالكين والمستأجرين، وحماية المستهلك، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، والعمل، والضمان الاجتماعي.
ويؤمل أن يساهم قانون الانتخاب المنشود في تعزيز عدالة التمثيل، وتقوية فرص تنافس الأحزاب، وترسيخ تجربة الحكومات البرلمانية، إذا قدّر للمجلس الأخير استكمال مدته الدستورية.
المحك الأول لجدية الإصلاح سيكون سن نهج التشاور في تشكيل الحكومات، وصولا إلى توافق يقود إلى تكليف رئيس الوزراء، الذي يبادر بدوره إلى التشاور مع الكتل النيابية والقوى السياسية الأخرى حول تشكيلة فريقه الوزاري، وينشد الثقة من مجلس النواب على أساس البيان الوزاري الناجم عن عملية التشاور، بحسب وصفة الملك.
يقود رئيس الديوان الملكي د. فايز الطراونة، المشاورات مع الكتل البرلمانية فور تشكيلها، وإعادة رص صفوفها بعد أن تكشفت هشاشتها لدى انتخاب رئيس مجلس النواب. فالكتل قامت على شخصيات مستقلة، أو تنتمي لخمسة أحزاب سياسية شاركت في الانتخابات. وبالطبع، كلما استطاعت الكتل إعادة بناء نفسها، سهلت مهمة د. الطراونة.
الملك يطالب أيضا بنهج حكومي يقوم على بناء استراتيجيات وخطط تنفيذية بالتشاور مع القواعد صعودا إلى الأعلى. ويحث الحكومة على توخي الشفافية والانفتاح، وتوفير المعلومة لدى عرض موازناتها، على أن يتم الحكم على أداء الحكومة ومساءلتها على أساس ذلك.
على أن التحديات أمام الإصلاح، في حال صدقت النوايا، ستأتي من كل حدب وصوب.
ذلك أن النخبة السياسية والاقتصادية -حال البيروقراطية المتجذرة- ستقاوم هذا الإصلاح، لأنها توّاقة لحماية امتيازاتها في ظل نظام ريعي يقايض الولاء بالخدمات. هذه النخب لا تريد للعملية السياسية أن تتطور إلى نظام يعتمد الكفاءة أساسا للعمل، ولا تريد إعلاما مستقلا وأحزابا بامتدادات مجتمعية وبرامج واقعية، أو مجتمعا مدنيا حيويا.
ولذلك، سنّت هذه النخب، على مر العقود، قوانين لحماية مصالحها من خلال إنتاج برلمانات ضعيفة، ذات توجهات خدمية على حساب دورها الرقابي، في ترجمة لمقولة "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة".
غالبية المجتمع محافظة ومنقسمة حول دور الدين في السياسة؛ والانفتاح على الغرب أو الانغلاق على الماضي؛ وحول الهوية السياسية. والنظام التعليمي لا يشجّع التفكير النقدي بما يحمي حرية الفرد في إبداء الرأي والاختلاف مع الآخر وتحدي المسلمات. وحقوق الطفل مهمشة. ودور المرأة، نصف المجتمع، مغيّب سياسيا وفي سوق العمل. 
لننتظر ونرى ما ستحمله الأيام المقبلة من مفاجآت. 
الملك رمى كرة التغيير في ملعب المؤسسات الرسمية والشعب والأحزاب والمجتمع المدني والنقابات وتيارات الحراك. وقد يفيد أن يقوم الجميع بفحص حدود النوايا من خلال التشابك الإيجابي، وخوض غمار عالم السياسة، وأساسها "فن الممكن". ذلك أن أي انتكاسة للعبة الديمقراطية الآن ستكون لها نتائج وخيمة على الجميع.

المراجع

rasseen.com

التصانيف

صحافة  رنا الصبّاغ   جريدة الغد   العلوم الاجتماعية