هناك، في لبنان، حرب هتافات ابتدأت قبل عام ولم تنته بعد:
"حزب الله" وأنصاره يهتفون في تظاهراتهم:"الله، نصر الله، والضاحية كلاّ (أي كلها)"، وهم، بذلك، يشيرون الى أمينهم العام السيّد حسن نصر الله والى منطقة الضاحية الجنوبية من بيروت، معقل قوّة "حزب الله" ونفوذه. أما "القوات اللبنانية" ومحازبوها فيهتفون: "الله، حكيم، قوّات وبسّ"، قاصدين بـ"الحكيم" قائدهم سمير جعجع الذي، وإن لم يكمل دراسة الطبّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، عُرف باللقب هذا. وبدورهم، فإن مؤيدي "تيّار المستقبل" (رفيق ثم سعد الحريري) يهتفون: "الله، حريري، طريق الجديدي"، والمقصود منطقة الطريق الجديدة في بيروت، أبرز قلاع الزعامة الحريريّة.
وهي هتافات تقول الكثير عن سويّة الوعي السياسي في لبنان، إن لم يكن في المنطقة العربيّة عموماً. لكن أحد ما تقوله إن الأطراف السياسيّة جميعاً تشترك في استخدام اسم الله، فيما ينفرد كل واحد منها باستخدام الله ضدّ طرف آخر. فإذا دفعنا الأمر أبعد قليلاً، بدا لنا كأن كل واحد من الأطراف المذكورة يزعم لنفسه"إلهاً" لا يختلف فقط عن"إله" الطرف الآخر بل يناقضه وينفيه.
وهو وضع يدلّ الى أن الافتراق في النظر السياسي الى الأمر غدا مطلقاً، كاملاً، يصعد من الخلاف على الأرض الى الخلاف في السماء، بحيث يحلّ بين القوى المعنيّة نوع من فرز كامل يطاول الاشتراك المفترض في عبادة إله واحد. فاسم الله الذي يورده الجميع لا يخفي، من ثم، وعياً وثنيّاً مستشرياً، بحيث يتوسّل الجميع ذكر الله توسّلاً رخيصاً في حرب بين آلهة ليس أيٌ منها هو الله الواحد.
وحرب الهتافات في بيروت عيّنة على التمزّقات اللبنانيّة، إن لم يكن العربيّة، وعمّا يصاحبها من تدهور متنامٍ في مستويات الوعي والفهم والتعقّل. وواقع كهذا يتاخم الردّة الى الهمجيّة والوثنيّة، يُفترض به أن يضع بعض الحدود على أوهامنا. ذاك أننا بمثل الشعارات هذه، وبمثل الذين يردّدونها هؤلاء، لا يسعنا التقدّم خطوةً واحدةً الى الأمام.
فالذي يريد "تحرير فلسطين"، كلّها أو بعضها، أو "إقامة الوحدة"، عربيّةً كانت أم إسلاميّة، أو "التصدّي للامبرياليّة والاستعمار" أو "نصرة الإسلام ومبادئه" أو "دمقرطة المجتمع والسياسة وتحديثهما"، الى ما هنالك من شعارات كبرى، متفاوتة ومتضاربة، عليه أن يتريّث قليلاً ويتمعّن كثيراً.
فالحال أن الموادّ التي تؤمّن الوصول الى أي واحد من هذه الأهداف الكبرى، كائناً ما كان الرأي فيها، موادّ غير متوافرة لدينا على الإطلاق. أما المتوافر منها فتلك القادرة على تأجيج حروب أهليّة ونزاعات لا حدّ لتناسُلها المدمّر.
فاللحظة الراهنة، والحال على ما هي عليه، تلحّ على مجتمعاتنا جميعاً بضرورة التوصّل الى هدنات وتسويات نحافظ بموجبها على ما هو قائم، وهذا بذاته مكسب ضخم، مستبعدين أيّاً من أشكال التصعيد التي تهدّد بتفكيك الأنسجة الوطنيّة للبلدان بلداً بلداً، كما تفضي الى إرجاع العقل العام للشعوب الى سويّات كنا ظنّنا أن شعوبنا تجاوزتها.
لكن ما تصطدم به دعوة كتلك المحمولة أعلاه أن الأمور اندفعت، وتندفع، أينما نظرنا، في اتجاه تصعيدي خطير. وما دمنا بدأنا بلبنان، فلا بأس بأن نلاحظ كيف ان التوتير يسابق الانفراج، من غير أن يكون واضحاً كيف يمكن لـ"الحوار" أن يذلّل التضادّ القائم بين مشاريع قصوى، يحمل كل واحد منها بذور التنافي مع المشروع الآخر؟
وما يصحّ، في لبنان، على نطاق مصغّر نقرأه مُكبّراً ومُضخّماً على مستوى المنطقة ككل، خصوصاً أن احتمال الاشتباك الأميركي مع إيران يتقدم بسرعة، يجاوره احتمال اشتباك أصغر حجماً في السودان، بسبب دارفور، فيما العراق لا يزال يعجّ بأشكال الموت المختلفة التي يجاورها تعاظُم الغموض في شأن مصير البلد نفسه.
وقصارى القول إن قسطاً كبيراً من المسؤوليّة عن الوضع الذي بلغناه، ونبلغه، يتحمّله إطلاق مشاريع ضخمة، وقليلة التواضُع، من دون امتلاك أيٍ من الأدوات التي تسهّل تنفيذها. فالافتراق هذا بين الامكانات الفعليّة الهزيلة والدعوات الايديولوجيّة السمينة والمتخمة يرقى الى سمة أساسيّة من سمات الفكر السياسي العربي. وإنما بالمعنى هذا، تصير الهتافات اللبنانيّة التي انطلقنا منها مقدمةً لمطالبات من نوع تحسين التعليم، أو إحداث بعض الانفراجات التي تتيح الاهتمام بالوضع الاقتصادي وإيجاد فرص عمل للشبيبة التي تهتف في الشوارع. أما أن تكون مقدّمة لإحداث تغييرات راديكاليّة عظمى، فهذا إنما يشبه السعي للوصول الى القمر بسيّارة قديمة ومحطّمة. فما يصحّ على بلدان كالصين والهند، فضلاً عن اليابان و"نمور آسيا"، تجمع الى تماسك نسيجها الوطني قوةً اقتصاديّة جبّارة، لا يصحّ فينا بتاتاً. وحتى بلدان أميركا اللاتينيّة الفقيرة والمتنازعة تنازعاً حادّاً ما بين يسار ويمين، تمتاز عنّا بأن مسألة وحدتها الوطنيّة ليست عرضةً للتصدّع أو التهديد، فيما خلافاتها الايديولوجيّة تالية على حصول الإجماعات الوطنيّة فيها.
وبدورنا، فإن ما نحن في صدده، اليوم، هو لحظة تأسيس الأوطان وإقامة الحدود الدنيا من الإجماعات، فضلاً عن تسيير شؤون حياتنا اليومية، اقتصاداً وتعليماً، بما يجيب عن أسئلة وحاجات مطروحة ومُلحّة. أما أن نفترض تحقيق برامج حدّ أقصى، تضجّ بالمواجهات المصيريّة والرؤى القياميّة، فهذا أقصر الطرق الى تعميم الكارثة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية