ثمة لغة سياسيّة يبدو، للوهلة الأولى، أنها مصنوعة لسوء التفاهم أكثر مما للتفاهم. فـ "حزب الله" اللبنانيّ، مثلاً، يسمّي "مقاومته" "مقاومة إسلاميّة"، وهي التسمية التي يأخذ بها جميع الإسلاميّين وبعض غير الإسلاميّين في العالم العربيّ وفي العالم. لكن الإعلام السوريّ ووزير خارجيّة سورية، وهما يعرفان المعنى المحدّد والمخيف لكلمة "إسلاميّ" في دمشق، يسمّيانها "مقاومة وطنيّة لبنانيّة". وهذا علماً بأن تلك الأخيرة التي أسّسها الشيوعيّون بعد غزو 1982 الاسرائيليّ هي التي تولّت "المقاومة الإسلاميّة" تصفيتها واجتثاثها.
مع هذا، يبدي الجميع، "حزب الله" وسورية والشيوعيّون، من الرضا والاتفاق، في الكلام كما في السياسة، ما يُحسدون عليه.
هذا التبايُن اللغويّ الذي يواكب الاتّفاق السياسيّ أوضح ما يكون حيال كلمة "أمّة"، حيث تم اللجؤ الى استئصال اللغة من أجل الحفاظ على الاتّفاق: فبعض الإسلاميّين يتحدّثون اليوم عن "الأمّة" من دون أن يقولوا لنا ما هي هذه الأمّة: أعربيّة هي أم إسلاميّة أم ماذا؟، وهذا مع التذكير بأن الفارق بين تسميتي "عربيّة" و"إسلاميّة" يعادل ما لا يقلّ عن نيّف و700 مليون إنسان، فضلاً عن مساحة من الأراضي تُعدّ بملايين الكيلومترات المربعّة، ناهيك عن عدد من اللغات والثقافات والمشاعر والمصائر والتواريخ مما قيل لنا مراراً إن الأمّة تتشكّل منها. لكن سورية والقوميّين العرب الذين يحالفون الإسلاميّين يلاقون في منتصف الطريق الإسلاميّين الذين يحالفون القوميّين، فيقولون، هم أيضاً، "الأمّة" من دون إطلاعنا على هويّتها المحدّدة.
وكانت بدايات هذا الخلط اللغويّ المدهش قد تأسّست لحظة انتقال الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، قبل أكثر من ربع قرن، الى الحضن السوري. فمن المعروف أن القوميّين السوريّين، على ما تدلّ تسميتُهم نفسها، يقولون بقوميّة سوريّة وأمّة سوريّة، فيما البعث الحاكم في دمشق ومعه جميع القوميّين العرب يقولون بقوميّة عربيّة وأمّة عربيّة. وهو خلاف شهير ترافق مع حرب أهليّة مصغّرة في سورية الخمسينات صاحبها اغتيال القوميّين السوريّين للضابط البعثيّ عدنان المالكيّ، ثم انتقام معسكر القوميّين العرب باغتيال الضابط القوميّ السوريّ الذي فرّ الى بيروت غسّان جديد.
مع هذا، توقّف أتباع "الزعيم" أنطون سعادة (وكان يرى أن العرب هم أبناء "العربة" أي الصحراء) عن تحديد الهويّة الخاصّة بهم منذ شملهم الراحل غازي كنعان بعطفه، فراحوا يقولون "أمّتنا" و"قوميّتنا" و"شعبنا" من غير إيضاح وتحديد.
وبعد سنوات قليلة، وكانت ثورة آية الله الخمينيّ بدأت تجتذب بعض العرب في موازاة تحالفها مع دمشق، اكتشفنا وجود "هويّة عربيّة إسلاميّة". هكذا نمنا ذات ثلاثاء على أننا ننتمي الى "أمّة عربيّة" وأفقنا صباح الأربعاء على انتماء جديد الى "أمّة عربيّة-إسلاميّة". وطبعاً لم يستدع الأمر توضيحاً أو استفساراً أو حتى مقالاً، كي لا نطلب كتاباً أو دراسة. 
والحال أن جميع القوى المعنيّة حين تضحّي بشيء عزيز كالهويّة (وهي في النهاية، أحزاب هويّة)، توصل إلينا من المعاني ما يتعدّى الدلالة اللغويّة. ذاك أن تسييد مفردات غامضة كتلك ينمّ عن ضمور البُعد الايديولوجيّ في حركة القوى المذكورة وفي سلوكها، بقدر ما ينمّ عن طغيان البُعد المسمّى استراتيجياً. فهي مع سورية ومع إيران، وكفى الله المؤمنين القتال. ثم إنها ليست مع سورية وإيران لأن البلدين هذين يصارعان من أجل هويّة معيّنة عزيزة على تلك الحركات، بل لأسباب متعدّدة أخرى:
فبعض هذه الحركات "مع" سورية وإيران لأنهما "ضدّ" الولايات المتحدة الأميركيّة، ما يجعلها حركات سلبيّة محضة. وبعضها "مع" سورية وإيران لأن الدولتين هاتين توفّران للحركات تلك عناصر بقائها على قيد الحياة بعدما زالت مبرّرات ذاك البقاء. وبعضها الثالث "مع" سورية وإيران تبعاً لعوامل تجمّعيّة مذهبيّة وطائفيّة هي أدنى بكثير من أن تشكّل هويّة لـ "الأمّة" و"الشعب"، كائناً ما كان هذان الأمّة والشعب العتيدان. أما بعضها الرابع فيصدر في موقفه وسلوكه عن جمع الأسباب الآنفة الذكر كلّها.
وعموماً يمكن القول إن هذا الانتقال من الوضوح الى الغموض، ومن "الايديولوجيّ" الى "الاستراتيجيّ"، يشبه المسار الذي اتّسم به تاريخ جماعات كـ "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين - القيادة العامّة"، حيث أن أمينها العام السيّد أحمد جبريل، وهو الضابط السابق في الجيش السوريّ، لا يمانع ما إذا كانت الأمّة هذه عربيّة أو إسلاميّة ما دامت شحنات الأسلحة تحطّ في حارة الناعمة، مقرّ قاعدته العسكريّة. والجبريليّة قد "تتطوّر" في مرحلة لاحقة إلى أبو نضاليّة لا تعوزها اللغة على الإطلاق. يكفيها أن يكون المسدّس ناطقاً وفصيحاً.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية