لدى تناول أيٍ من حكّام الكرة الأرضيّة يميل الناقد الى اعتماد التحليل السياسيّ أساساً، حتى لو استرعته بعض الجوانب الشخصيّة والنفسيّة في هذا الحاكم أو ذاك. مع بشّار الأسد، أو كيم جونغ إيل الكوري الشمالي، يعطي الناقد أولوّيته للتحليل النفسيّ.
فالاثنان هما رئيسا الجمهورية الوحيدان في التاريخ، وفي العالم كلّه، اللذان ورثا الرئاسة عن والديهما. وهو ما يطرح بحدّة في حالتيهما مسألة الإنجاز: ذاك أنهما يبدوان مطالَبين أكثر من سواهما بأن يأتيا عملاً يبرّر لهما هذه الوراثة أولاً، ثم يؤسّس لهما شرعيّة خاصة بهما مستقلّة عن الوراثة تلك. ويتعاظم ضغطٌ كهذا حين يكون النظام الموروث "إشتراكيّاً" في صورة أو أخرى، على ما هي حال السلطتين المذكورتين ولو بقدر من التفاوت اللفظيّ والسلوكيّ.
وبشيء من الرمزيّة التي يتيحها علم النفس يمكن وصف عمليّة كهذه بـ"قتل الأب" انطلاقاً من التجربة الأوديبيّة بحسب الشرح الفرويديّ لها. و"القتل" المقصود هو تجاوز الوالد بأداء عمل يرتبط بالنجل وحده، ويعود رصيده الى النجل وحده، بحيث يحرّره من وطأة أبيه ومن وراثته.
والحال أن كيم جونغ إيل نجح في هذه المهمّة من خلال المسألة النوويّة التي ضجّ ويضجّ بها العالم بأسره، بحيث لم يعد يرد اسم والده كيم إيل سونغ إلا كتفصيل صغير في معرض الحديث عن ابنه وأفعاله (من غير أن تكون بالضرورة أفعالاً بيضاء). وهذا على رغم أن الأب صاحب إنجازات كبيرة بمعيار النظام والايديولوجية الشيوعيين في كوريا الشمالية: فهو أسس البلد نفسه بعد خوضه أو الحروب الكبرى في زمن الحرب الباردة، كما أنه أقدم على تصنيع كوريا الشمالية بالمعنى الذي يمجّده أتباع الأنظمة الجماعيّة والتوتاليتاريّة في العالم. مع ذلك، فتلك العلاقة لا تصحّ بتاتاً في الرئيس السوريّ الشاب. فالأخير عُدّل الدستور بأغرب الطرق لكي يضمن له الوراثة، بحيث يتولّى الرئاسة وهو في الرابعة والثلاثين (لا الثلاثين، مثلاً، ولا الخامسة والثلاثين!).
لكن حاكم دمشق الجديد لم يفعل شيئاً يُذكر منذ ذلك الحين. أما الذي فعله، كالاصلاحات السياسيّة التي ابتدأ عهده بها، فما لبث أن انقضّ عليه وأطاحه تباعاً ليعاود ملء سجونه بمساجين الرأي، مسترجعا إرث البعث في الحكم.
صحيح أن الوالد كان، بدوره، صاحب طريقة غير مسبوقة في اللغة السياسيّة جعلت نظامه يسميه "بطل الجولان" رغم أنه خسر الجولان، كما دفعته الى تبرير تدخّله في لبنان "دفاعاً عن المقاومة الفلسطينيّة وحمايةً للديموقراطيّة اللبنانيّة. وهي حجج متهافتة لأكثر من سبب جليّ: فجيشه وحلفاؤه قتلوا من الفلسطينيين، في حربي طرابلس والمخيّمات، أكثر مما قتل الاسرائيليون، كما أن ياسر عرفات لم يُطرد بالمعنى الشخصيّ والحرفيّ كما طُرد من دمشق. ثم إن الدفاع عن المقاومة في لبنان، في ظل إسكات جبهة الجولان السوريّة- الاسرائيليّة، يبقى غير قابل للتصديق الا بقدر تصديقنا لحماية الديموقراطيّة اللبنانيّة على يد نظام عسكريّ وديكتاتوريّ كالنظام السوريّ.
مع هذا فالأسد الراحل كان يزاوج خطابيتّه الملتوية بسياسات بارعة جعلته ناجحاً في جمع التناقضات التي يصعب أن تجتمع تحت سقف واحد: فهو، مثلاً، صادق السعوديّة والاتحاد السوفياتيّ في الوقت عينه، ثم ضمّ اليهما إيران الخمينيّة حليفاً ندّيّاً. ولئن شارك الأميركيين حرب الخليج لتحرير الكويت من نظام بعثيّ آخر، فإنه نجح في استخدام العروبة غطاءً سياسيّاً وإيديولوجيّاً لفعله هذا.
بيد أن النجل لم يحتفظ من هذا السجلّ الأبويّ إلا بالتواء اللفظ دون البراعة الانجازيّة. فهو استطاع، بضربة واحدة، أن "يكسب" خصومة مصر والسعوديّة والأردن، أي البلد العربي الأكبر والبلد العربي الأغنى وأحد البلدان التي تشاركه بعض أطول حدوده. وينضاف هذا الى علاقة بالغة الرداءة بالدول الغربيّة المؤثّرة جميعاً. وبمعنى آخر، يمكن القول إن النجل فكّك سياسة الوالد وأطاحها، فكأنّه، وقد عجز عن تجاوزه، ينتقم منه ومن تركته.
فحافظ الأسد، في آخر المطاف، هو الذي دخل لبنان وأدخل اليه جيشه ومخابراته. أما بشّار فهو الذي أُخرج من لبنان جيشاً وسلطةً ونفوذاً ومخابرات. وفي محلّ أكاليل المجد مكافأة على "العون الأخويّ"، حلّ شعور عميق بالاهانة والعار. ولئن ابتدأ حافظ محارباً في 1973 قبل أن ينتهي مفاوضا، فإن بشّار عجز عن أن يكون أيّاً من الحالتين. ثم إن الأب كان يرفض العروض السياسيّة التي تقدّم له، أو أنه، على الأقلّ، كان يناور و"يبيع ويشتري"، في حين أن أحداً لا يقدّم عرضاً، مطلق عرض، لابنه الشاب. وإذا كان حافظ الأسد حليفاً لحكّام إيران يحتاجونه طريقاً الى المشرق العربيّ وموازياً عربيّاً لصدّام، فقد غدا بشّار ملحقاً بالسياسة الإيرانيّة بعدما غدت في عهدة المدعوّ محمود أحمدي نجاد إيّاه!
وهو جميعاً ما يسمح بالقول ان سيّد دمشق حين يتحدّث كما فعل في خطابه الأخير، تكون أزمته مع صورة الأب قد استفحلت، ويكون عجزه الإنجازيّ قد دفع به بعيداً في مسالك الهذيان والانفصال عن الواقع.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية