شكّل الإعلام فسحة التحام حميم بيننا، نحن عرب المشرق، وبين الغرب. فقد قدم الينا مع قدوم الاستعمار، فارتبطنا به من خلال صيغتين. أمّا الأولى فسادها التماهي الكامل نسخاً لفضائل التقدّم الغربيّ وتبشيراً بسيطاً بها. وأمّا الثانية، وقد ابتدأت أواخر الخمسينات وبلغت الذروة في الستينات، فعرفت الاستحواذ على الإعلام من ضمن توطيد قبضة الدولة العسكريّة. وبشيء من الأوديبيّة أريد استخدام الإعلام لنشر سياسات معادية للسياسات الغربيّة التي وفد إلينا الإعلام من بلدانها.
وعلى صعيد القيم، كانت صحافة الدولة العسكريّة في مصر وسوريّة، ومثلها صحافة اليسار، حريصة على نشر بعض تعاليم التنوير وفكرة التقدّم وحقوق المرأة في المواجهة مع إعلام الدول المحافظة. بيد أنها تحفّظت عن حقوق الإنسان والديمقراطيّة البرلمانيّة بوصفها قيماً بورجوازيّة.
لكن بين أوائل السبعينات وأواخرها، دخلت عوامل تسنّى لها أن تطلق عمليّة مديدة في اتجاه معاكس. ففي 1979 قامت الثورة الخمينيّة في إيران، وقبلها بسنوات قليلة شرعت تتعاظم قوّة النفط في الحياة العربية من دون أن تسبقها تعديلات ملحوظة في أنظمة القيم. كذلك انفجر لبنان تحت وطأة نزاعه الأهلي- الإقليمي فحُرم العرب جسر تلاقُح ثقافي مهما. وبدورها عجزت مشاريع الانفتاح الليبراليّ التي أطلقها الرئيس أنور السادات في مصر عن تحقيق النتائج المرجوّة. ذاك أن العقدين الناصريّين في الخمسينات والستينات كانا قد أوهنا البورجوازيّة الوطنيّة فبدت "بورجوازيّة الشنطة" الطرف الأكثر تأهيلاً للإفادة من الانفتاح. وإذ سجّل العام 1982، مع الغزو الإسرائيليّ للبنان، افتتاح مرحلة أشد شراسة في الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ضمرت كليّاً الدعوات التنويريّة لأحزاب اليسار الذي راح يلتحق بالشعبويّات الإسلاميّة المتعاظمة النفوذ.
وعلى مدى الثمانينات، ولا سيما التسعينات، تزايدت ساحات الصدام مع السياسات الغربيّة، فلم تشكّل مصالحات مدريد وأوسلو الفلسطينيّة- الإسرائيليّة غير هدنة عابرة. وإذ استمرّت البورجوازيّات الوطنيّة ما بين مستنكفة وعاجزة عن الاستثمار في إعلام مستقلّ، اتّضحت حدود الاندراج الهزيل في العولمة: ذاك أن بلدان المشرق الأكثر تأهيلاً ثقافيّاً هي التي عرّضتها الأنظمة العسكريّة لاستنزاف في الكفاءات ومعرفة اللغات مما يتطلّبه الاقتصاد الصاعد.
هكذا اكتملت لوحة الانتقال من رفض السياسات الغربيّة الى رفض القيم الغربيّة، الأمر الذي سار في موازاة الصعود الأصوليّ وتجلّى، ويتجلّى، في تعابير عدّة وعلى أكثر من مستوى. والحال أن بعض التلفزيونات العربيّة تترجم ترجمة دقيقة المعادلة الأوديبيّة المشار إليها أعلاه من دمج بين استيراد التقنيّات الغربيّة واستخدامها ضدّ السياسات الغربيّة حصراً.
صحيح أن ثمة صحفاً وتلفزيونات تتحدّى، في هذه الدرجة أو تلك، ما هو سائد على الصعيدين القيميّ والسياسيّ، غير أن هذا لا يلغي اصطدامها بمكارثيّة جماهيريّة معطوفة على الرقابات الرسميّة إلاّ أنها أوسع منها نطاقاً وأخطر. وهذه المكارثيّة تتسلّح بتهم تخوينيّة وتكفيريّة من نوع وصف المختلف بأنه "يتحدّث مثل إسرائيل" أو أنه "من صحافيّي المارينز" أو أن الصحيفة التي يكتب فيها "كأنها ليست عربيّة" (وهذا رغم مطالبة الصحف الغربيّة بأن تكون عادلة، أي "غير غربيّة"). هذه المكارثيّة الجماهيريّة بلغت ذروتها إبان مشكلة الرسوم الدنماركيّة حيث التقت المشارب الايديولوجيّة عند ثقافة شعبيّة وشعبويّة مشتركة.
وكثيرة هي الصحف التي تحرص على أن تكون فيها صفحة "تراث" ثابتة تقدّم حلولاً للمشاكل الراهنة مستقاة من تجارب انقضى عليها أربعة عشر قرناً. والشيء نفسه يصحّ في التلفزيونات حيث يتمتّع برنامج كـ "الشريعة والحياة" الذي يحييه الشيخ يوسف القرضاوي على "قناة الجزيرة" بشعبيّة غير مسبوقة. والمدهش أن اهتماماً كهذا بـ "التراث" يقابله إهمال ملحوظ وشامل للمتاحف وصيانتها!
ومع اتّساع النفوذ الأصوليّ ذهب إعلامه خطى أبعد. ففيه تسطع صورة للغرب بوصفه مجرّد مسرح للتفسّخ والانحلال والتدهور والتهتّك ومرض الايدز، فضلاً، بالتأكيد، عن العداوة الجوهريّة و"الصليبيّة" حيال العرب والمسلمين.
وتتأكّد، منذ سنوات، صعوبة تأسيس قاموس مهنيّ عربيّ، وهو ما يتجلّى في تعبير "شهيد" الذي يكثر استخدامه في الإعلام، وفي تولّي بعض التلفزيونات، خصوصاً "قناة الجزيرة"، تكثير الشهداء من خلال تكرار صورهم، كما من خلال جعل صور الحشود الغاضبة مادّة ترويج لبرامج معيّنة أو فواصل بين برنامجين. وهذا بقدر ما يُضعف صورة الأفراد، يقدّم الموت لا كاضطرار، ولا كسبب للحزن والأسى، بل كمناسبة مطلوبة ومرغوبة إن لم يكن محبوبة.
كذلك، فبعد جهود كثيرة بذلت في الستينات والسبعينات لتمييز اليهوديّ عن الصهيونيّ وفرز يهوديّ عن يهوديّ آخر، عادت الى الواجهة لغة عديمة التمييز. والأمر بلغ الذروة مع برنامج "فارس بلا جواد" التلفزيونيّ الذي يعتمد "بروتوكولات حكماء صهيون" مرجعاً أساسيّاً من مراجعه. لكن اللافت أن هذا البرنامج الذي أنتج في دمشق لم يعرضه التلفزيون السوريّ، بل قناة "المنار" الناطقة بلسان "حزب الله" اللبنانيّ.
ولا يزال استخدام تعبير "الشذوذ الجنسيّ" يفوق كثيراً استخدام تعبير "المثليّة الجنسيّة"، كما لا يزال إنكار وجود أيّة مشكلة تعانيها المرأة أو الاقليات، وأية مأساة انسانية تتعرض لها دارفور، وقبلها كردستان، ردّنا الجاهز حالما يقول صوت أميركي بأن هذه المشكلات والمآسي قائمة في الوضع العربيّ.
وقصارى القول إننا اليوم، وعلى ما يقول تعبير شعبي، مثل ذاك الذي عاقب زوجته بخصي نفسه. فالعرب الآن لا يملكون ميكانيزماً داخليّاً لنظام قيمهم، بقدر ما يتحرّكون بموجب ردّ بافلوفيّ على ما تقوله أميركا أو تفعله. وهذا وضع خطير.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حازم صاغية