ماذا يتغيّر في فرنسا؟
بكثرة وتكرار يُطرح السؤال أعلاه، هذه الأيّام، عشيّة انتخابات نيسان(ابريل) – أيّار(مايو) الرئاسيّة. وإذا كانت الانتخابات وأجواؤها ما أوحى بالسؤال، فإن المثقّفين، أو "مُلاحظي الحدث"، هم الموحى إليهم في المحلّ الأوّل.
والراهن أن فرنسا تتحوّل، في نظر البعض، مقلّدةً لبريطانيا والولايات المتّحدة، أي النموذج الأنكلو ساكسوني في معناه العريض، والذي غالباً ما تعالت عليه، لا سيّما على شقّه الأميركيّ، بل واجهته باحتقار يكاد يكون من طينة أرستقراطيّة في النظر الى العاميّين.
فقد درج التقليد القديم على اعتبار فرنسا "جمهوريّة تبحث عن ملك"، وهو ما يجد بعض جذوره، وبعض تعابيره كذلك، في تلقيب الملك الفرنسي بـ "الشمس"، وفي حضور أشخاص كنابوليون في تاريخ البلد قلبوا النظام الجمهوريّ، وكان لا يزال حديث الولادة، الى امبراطوريّة، ثم صبغوا حياة قارّة بكاملها، وطوال عقد ونصف عقد، بالحروب. ورغم انتصار قيم الحداثة والديمقراطيّة بقيت فرنسا تمانع. فبعض رؤساء الجمهوريّة في النصف الثاني من القرن العشرين، وأهمّهم شارل ديغول، أو في ثمانينيات ذاك القرن، وأبرزهم فرانسوا ميتران، تصرّفوا بعتوّ امبراطوريّ بات من ميّزاتهم ومزايا حقبهم في الحكم والحاكميّة. ومعروف ان الفرنسيّين سمّوا ميتران، في معرض وصفهم تعاليه وعظمته، "الإله". أما ديغول فما هي عظمته مع عظمة أمّته، والعكس بالعكس.
ولا يزال القادم من لندن الى باريس يستغرب بعض الأسماء التي تزيّن الشوارع ومحطات الأنفاق (المترو) فيها، والتي هي أسماء جنرالات(فوش...)، أو معارك في التاريخ الوطنيّ (أوسترليتز...)، أو التاريخ العالميّ (ستالينغراد...)، أو حتّى مصطلحات كـ "الأمّة" (ناسيون) و"الجمهوريّة" (ريبوبليك) تشي، من جهة، بالعظمة القوميّة، ومن جهة أخرى بالنزوع الثوريّ. فإذا صحّ، مثلاً، أن لندن تملك أيضاً ساحة ترافلغر(الطرف الأغرّ) وتمثال نيلسون، غير أن الثقافة البريطانيّة تتفنّن في السخرية منهما، فيما التخطيط المدينيّ يجهد لكسر العظمة عنهما وإسباغ الأنسنة والعاديّة عليهما.
على أيّة حال فالمواصفات الفرنسيّة المذكورة، على ما تسجّل الانتخابات الوشيكة، تتغيّر.
فهي، أوّلاً، معركة يُرجّح أن تشهد رحيل رئيس هو جاك شيراك. وهذا، بالطبع، ليس حدثاً فريداً، غير أنّه سيأتي، هذه المرّة، مصحوباً بتراجع قيمة النبالة بوصفها القيمة التي يحتلّ التطابق معها موقعاً متصدّراً في الحياة السياسيّة وفي مثالاتها. ذاك أن المعركة سوف تجري بين "حديث النعمة" نيكولا ساركوزي عن "اليمين"، وبين الشعبويّة سيغولين رويال عن "اليسار". والاثنان لا صلة تصلهما بـ "العهد القديم": فساركوزي، ابن المهاجرين الهنغاريّين، ليس من خرّيجي "الإيكول ناسيونال دادمينيستراسيون" (المدرسة الوطنيّة للإدارة) التي يُعتبر المرور فيها شرطاً ضروريّاً للصعود الى الذروة السياسيّة. ثمّ إنه ليس مثقّفاً. وصحيح ان شيراك ليس مثقّفاً، لكنّ جميع الرؤساء الذين سبقوه، كديغول وجورج بومبيدو وجيسكار ديستان وميتران، كانوا كلّهم مثقّفين، كلّ منهم بطريقته، وكلّهم ألّفوا كتباً في السياسة أو السيرة أو الأدب. والحال أن شيراك "اضطرّ"، هو الآخر، الى إصدار كتابين من نوع برنامجيّ، علماً أن تعويضه الأساسيّ عن "نقصه" هذا وفّره له هاوي الشعر، كتابةً وقراءةً، رئيس حكومته الحاليّ ووزير خارجيّته السابق، دومينيك دو فيلبان. أما ساركوزي فلم يبال بتقديم وجه ثقافيّ له، بل لم يُبدِ إلاّ مؤخّراً جدّاً اهتمامه بالمثقّفين ورأيهم، مخالفاً سنّة فرنسيّة شهيرة.
في هذا كلّه ذكّر المرشّح الديغوليّ كثيرين من المراقبين بـ"ابنة البقّال" مارغريت ثاتشر، رئيسة الحكومة البريطانيّة السابقة التي صعدت من صفوف شريحة دنيا في الطبقة الوسطى لتستولي على قيادة حزب المحافظين وتقصي عنها الأبناء الأرستقراطيّين من جريجي "إيتون". لكنّه ذكّر آخرين برئيس الحكومة البريطانيّ الحالي توني بلير الذي، على رغم مصاعبه الكبرى التي تسبّبت حرب العراق بمعظمها، لا يزال يحظى بإعجاب ساركوزي.
أمّا رويال، فكانت طالبة في "الإيكول ناسيونال دادمينيستراسيون"، وهناك تعرّفت الى فرانسوا هولند، القائد الحاليّ للحزب الاشتراكيّ الذي بات أستاذها في السياسة الاشتراكيّة وصديقها وأب أبنائها، قبل أن يتحوّل منافسها الفاشل على ترشيح الحزب الاشتراكيّ. لكنّها كدّت وجهدت للوصول الى حيث وصلت، فعملت موظّفة في إدارة ميتران، ثم شقّت طريقها الى القمّة عبر شنّها حملة منظّمة ومنهجيّة على قادة الحزب التقليديّين بمن فيهم هولند نفسه.
ثمّ ان رويال تفضّل الحدس على الثقافة والايديولوجيا، فتسيّر أمورها "كلّ يوم بيومه"، وتراهن على سلطويّة بورجوازيّة صغيرة عُرف بها اليمين تقليديّاً، مؤثرةً الكلام في المسؤوليّة والاحترام والواجبات أكثر مما في الحقوق مما عُرف به تقليديّاً اليسار. وهي، فوق ذلك، لا تملك مشروعاً، وليست لديها معرفة يُعتدّ بها لا في الاقتصاد ولا في أوروبا. ولئن وجد البعض في "مرونتها الاشتراكيّة" ما ذكّرهم بتوني بلير وانتهازيّته، فكونها امرأة وحملتها ضدّ تقليديّي حزبها ذكّرا آخرين بمارغريت ثاتشر. وإذا كان ساركوزي منحازاً، في وجه الإجمال، للسياسات الأميركيّة، ولعلاقة فرنسيّة أوثق مع واشنطن، مخالفاً بهذا أحد التوجّهات المشهودة للديغوليّة، فإن منافسته رويال معجبة بالحملات الانتخابيّة على الطريقة الاميركيّة. وقد سبق لها أن طالبت المقترعين، عبر شبكتها على الانترنت، أن يدلوا باقتراحات كالتي طالب بها ساركوزي مقترعيه ومقترعيه المحتملين. وهو لم يتردّد في الإعلان عن نيّته خفض الضرائب والذهاب بعيداً في الخصخصة، داعياً فرنسا "ألاّ تختبئ من العولمة". وهي، من ناحيتها، تحدّثت، وتتحدّث، عن "تغيير" لا يزال غامضاً، لكنها دعت أساتذة المدارس، وهم العمود الفقريّ لحزبها الاشتراكيّ، الى بذل مزيد من الجهد لتحسين التعليم.
وقصارى القول إن فرنسا، منظوراً إليها من زاوية مرشّحيها اللذين سيصير أحدهما رئيس/رئيسة الجمهوريّة قريباً، تدخل الدمقرطة من باب عريض. وثمن الدمقرطة درجة من الشعبويّة والخفّة يصعب اجتنابها.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية