أن يصير الإقدام على العمليّات الانتحاريّة أمراً سهلاً ورائجاً بين شبيبة العديد من البلدان العربيّة والمسلمة، فهذا تطوّر بالغ الخطورة، باعث على شديد القلق. ذاك أن "الشباب"، من حيث المبدأ، مفهوم يرتبط بالحياة وطلب الحياة. وإبّان فترة الشباب، على ما يقول علم النفس، يُستبعَد الموت تماماً من الحسابات حتى ليتراءى للشابّ أنه خالد لا يموت.
والقاعدة المبدئيّة تلك يحطّمها هذا الإقدام التطوّعيّ والمبادر على طلب الموت، كائنةً ما كانت الذريعة، مثلما يحطّم قاعدة أخرى لا تقلّ مبدئيّة وأساسيّة مدارها العلاقة بين الحضارة والطاقة الردعيّة التي يجسّدها الموت. ذاك أن الإبداع الذي أبدعته البشريّة، منذ نشأتها الأولى، هو في أحد تأويلاته سلاحٌ لمقاومة ذاك الاندثار الذي ينتظرنا في نهايات حياتنا. ومن أجل مكافحة الموت تمّ، عبر النحت والتماثيل وتحويل الصخر والحجر، تأبـيد الحياة وبشرها وأشكالها، كما لو أن تصميماً حادّاً يسوق البشر الى رفض الموت ومدّ أمد الوجود إلى ما بعد نهايته البيولوجيّة. وهو، في الواقع، جزء من كونهم بشراً ومن إنسانيّتهم.
لكن حصول ما يحصل اليوم لا بدّ أن يحملنا على التساؤل: ما الذي يدفع شابّاً كي يتعامل مع حياته بوصفها لا شيء، ومع الموت بوصفه خلاصاً منها، وبالتالي مرتبةً أفضل من مرتبتها.
ما من شكّ في أن المسألة التي يحيطها كثيرون بالتجاهل هي أن ملايين شبّان العالم الإسلاميّ يرون أن حياتهم تعادل اللاشيء لأنها، بالفعل، تعادل اللاشيء. فما بين فقر وبطالة وإحباط وشعور باللاجدوى، يتحوّل العيش عبئاً على أصحابه، عبئاً يُستحسن التخلّص منه وطيّ صفحته.
وما يفاقم هذا الميلَ أن التحوّل الديموغرافيّ الضخم الذي تعيشه منطقتنا يجعل الفرص، وهي ضيّقة أصلاً، أكثر ضيقاً. فإلى ضآلة الاستثمارات الخارجيّة التي تفد إلى المنطقة، هناك الفساد والهدر الرسميّان مما يبدّد القليل المتوافر. وإلى سلوك أبويّ سائد، يبدأ في البيت والمدرسة ويُتوّج في السلطة السياسيّة، نازعاً عن الشاب إحساسه بالكرامة الذاتيّة، هناك أسباب الغضب السياسيّ التي باتت شاشة التلفزيون تعمّمها على نحو غير مسبوق، لا سيّما ما يفد من العراق وفلسطين.
وهي جميعاً عوامل يستحيل النظر من دونها إلى فقدان معنى الحياة لدى أصحابها. لكنْ هل تكفي العناصر تلك، على أهميّتها الفائقة، لحمل الشبّان، وعلى نطاق عريض، على طلب الموت؟
فالظاهرات المذكورة، من فقر وبطالة وغيرهما، تعيشها بلدان افريقيا مثلاً، إلاّ أنها لا تدفع الأفارقة إلى ما يندفع إليه الشبّان المسلمون.
إذاً لا بدّ من البحث عن أسباب أخرى تكمّل الأسباب المشار إليها أعلاه من دون أن تكون بديلها. وهنا تحضر مسألتان أساسيّتان: الثقافة الدينيّة والثقافة السياسيّة.
فعلى الجبهة الأولى، يواجهنا انعدام الإصلاح الدينيّ الذي يرتبط وثيق الارتباط بضعف المصادر الزمنيّة للشرعيّة السياسيّة لدينا والتي تمضي في انسحابها من أمام هجوم الدين ورجاله. ومما يترتّب على هذا الواقع دوراننا في شرنقة وعيّ لم يتعرّض لإصلاح يصار بموجبه إلى تأويل النصّ على نحو غير حَرفّي. وعلى النحو هذا يُعمَد إلى تجميل الجنّة على حساب الحياة فتُوَسَّع الهوّة بينهما بحيث يصير طلب الاثنين أشبه بالتناقض، لا بل بالاستحالة. فمتى كانت الحياة ميدان الرذيلة بات من الصعب الجمع بينها وبين ما تنطوي عليه الجنّة من فضيلة ومن متع قصوى. وغني عن القول إن الحسم إذّاك يأتي فورياً ومُلحّاً لمصلحة الثانية، فكيف متى تُرك أمر التعريف بالدنيا والآخرة لبعض المشايخ والوعّاظ الذين نراهم على شاشات التلفزيون، أو نسمعهم في خطب الجمعة، أو نقرأ فتاواهم؟
أما على الجبهة الثانية، أي الثقافة السياسيّة، فيواجه الشاب العربيّ والمسلم خياراً آخر لا يقلّ حدّة: فمن جهة، هناك تراث عظيم في تمجيد أعمال المقاومة والشهادة وفي اعتبار من يقدم عليهما "عريس" الأمّة والشعب. ومن جهة أخرى، هناك حياة سياسية مغلقة، هزيلة الحراك، لا تفتح ذراعيها إلا بصعوبة فائقة للقادمين الجدد، ولا تستوعب منهم إلاّ أقلّ القليل. وبدورها، تتغذّى الحياة السياسيّة هذه على "أفكار" تنيط السلطة بجماعة بعينها، تبعاً لمواصفات المكانة والحسب والنسب والمال، فيما تضع الذين لا يملكون هذه المواصفات خارج السلطة، أو "تبرّر" وضعهم في هذا الخارج.
وهنا أيضاً سيكون الاختيار سهلاً بين "مجد الشهادة" و"ذلّ الخضوع". وفي معنى الانسحاق هذا، قد يرى المنتحر الى موته "الفرصة" الوحيدة التي يغدو فيها "مهمّاً" و"نجماً"، تُعلّق صوره على الجدران، ولأجله يلتفّ الجيران والأقارب حول بيته ويكرّمون أبويه اللذين يُعرّفان به، فيما يتولّى التلفزيون، في زمننا المعولم هذا، نقل "أهميّته" و"نجوميّته" الى العالم الأوسع.
وقصارى القول إن مكافحة هذا الميل المستشري الى الانتحار مهمّة معقّدة ومتعدّدة الأبعاد، بعضها يطاول السلطات السياسيّة وفسادها وضيق رقعتها، وبعضها يطاول النزعات الايديولوجيّة الحادّة المتسبّبة بحروب أهليّة وتعصّبات تعاظم البؤس والفقر، وبعضها الأخير يتعلّق بالإصلاح الدينيّ والاشتغال على تجديد مصادر الشرعيّة السياسيّة في مجتمعاتنا. أما إعفاء النفس من أيّ من هذه المهامّ فيرقى الى دعوة، حسنة النيّة أو سيّئتها، لمزيد من العمليّات الانتحاريّة.
حازم صاغية
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة حازم صاغية العلوم الاجتماعية الآداب