هناك نُذر تبعث فعلاً على القلق، بيد أنه يبقى، في آخر المطاف، قلقاً محدوداً وملجوماً.
نعدّ من تلك النذر بعض القليل الأشدّ إثارة:
هناك، اليوم، ما يشبه سباق تسلّح أعلن عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيّته سيرغي لافروف، متّهمين الولايات المتّحدة بالتسبّب به من خلال مشروعها نشرَ الدروع الأميركيّة المضادّة للصواريخ. وها إن تعابير كـ"الامبرياليّة" يؤتى بها من الخزانة الشيوعيّة الى قاموس الاستخدام اللغويّ الروسيّ، فيما وزيرا خارجيّة الولايات المتّحدة والاتّحاد الروسيّ، كوندوليزا رايس ولافروف، يكادان يعطّلان بمشاجراتهما أعمال المؤتمر الوزاريّ لمجموعة الثماني في بوتسدام بألمانيا.
زد على ذلك تردّي العلاقات الأوروبيّة مع روسيا، بسبب الطاقة والتجارة كما بسبب حقوق الإنسان وأوضاع الجمهوريّات الأوروبيّة الصغرى التي تريد موسكو أن تمارس سيطرتها الجلفة عليها. يحصل هذا جميعاً بعد أن فقد الروس، برحيل غيرهارد شرودر عن المستشاريّة الألمانيّة، حليفهم الأساسيّ الوحيد على حدودهم الغربيّة.
وحتّى على مستويات أدنى، وإن كانت أشدّ تذكيراً بمناخات الحرب الباردة وروايات جان لوكاريه عنها، تحضر قضيّة العميل الروسيّ السابق ألكسندر ليتفينينكو الذي توفي في مستشفى لندنيّ متأثّراً بحالة تسمّم ناجمة عن مادّة البولونيوم المشعّة. ولئن اتّهمت بريطانيا عميلاً روسيّاً بتسميمه وقتله، لا تزال موسكو، من ناحيتها، تتّهم لندن بـ"تسييس الموضوع"، ما يخلق، بين البلدين، جوّاً من الإثارة والمهاترة قد يكون مفتوحاً على المفاجآت.
وهناك، في المقابل، علامات توحّد، تكاد ترقى الى تطابق، بين الولايات المتّحدة وحليفاتها التقليديّة في أوروبا الغربيّة، على النحو الذي يذكّر بالاصطفاف الذي كان سائداً إبّان الحرب الباردة في مواجهة الاتّحاد السوفياتيّ. فما من أصوات مؤثّرة في أوروبا اليوم تتحدّث عن خطأ واشنطن بشنّها حرب العراق، وهو ما سبق له أن شقّ وحدة العالم الأطلسيّ، وذلك على رغم تعاظم الخسائر واتّساع دوائر الخطر الذي ينتجه الوضع العراقيّ. ومن ناحية أخرى، لم يعد من المحرّم، لا في الولايات المتّحدة ولا في غيرها، الكلام على الانسحاب من العراق. حتّى ردّة الفعل التي كانت إدارة جورج بوش تستقبل بها دعوات كهذه فقدت الكثير من حرارتها وحدّتها السابقتين.
لكن علامات التوحّد تذهب أبعد من ذلك: فبعد التحوّل الذي جاء بالمستشارة أنجيلا ميركل "صديقة واشنطن"، الى حيث كان يحلّ شرودر المتحفّظ عنها، كان التحوّل الفرنسيّ الذي حمل نيكولا ساركوزي، المعجب بالنموذج الأميركيّ، وأيضاً بالسياسات الأميركيّة، الى الأليزيه. بيد أن هناك أكثر من هذا: فقد نُظر الى "الحوار" الأميركيّ – الإيرانيّ بوصفه تبنّياً للحساسيّة الأوروبيّة في العلاقات الدوليّة وتطبيقاً، من دون ضجيج، لروحيّة تقرير جيمس بيكر – لي هملتون المحبّذ أوروبيّاً، أكثر بكثير منه تعبيراً عن نظرة واشنطن الأصليّة الى إيران كضلع من أضلاع "محور الشرّ". الى ذلك، لم يكن قليل الدلالة ذاك التحوّل الضخم الذي أقدمت عليه الإدارة البوشيّة حيال مسألة البيئة والتسخين الحراريّ. فبعد أن كانت تنكر وجودها تماماً، وعلى جميع مستوياتها الرسميّة، إذا بها، وعلى لسان بوش نفسه، تُقرّ بها وبخطورتها، داعيةً لبذل الجهود للتعاطي معها على النحو الذي يفيد الانسانيّة والطبيعة في آن معاً. وهذا مما يمكن عدّه، بطبيعة الحال، تنازلاً للواقع وحقائقه، إلا أنه، في الحسابات السياسيّة، تنازل لأوروبا. فمعروفٌ، مثلاً، أن حكومة كحكومة توني بلير في بريطانيا التي عُيّرت مراراً بالسير في ركاب البيت الأبيض، لم تكفّ عن انتقاد واشنطن بسبب موقفها من بروتوكول كيوتو الذي رفضت توقيعه، لا بل بسبب مجمل موقفها الإنكاريّ من الموضوع البيئيّ عموماً. وإذا صحّ أن غوردون براون، وزير الخزانة البريطانيّ الذي سيحلّ قريباً جدّاً في محلّ توني بلير، يفوق سلفه استياءً من سياسات الإنكار تلك، لم يعد من المبالغة ربط الاعتراف الأميركيّ الجديد بالمشكلة بتوطيد التحالف مع "القارّة القديمة". وأخيراً، يصعب المرور مرور الكرام على الموقف الأميركيّ – الأوروبيّ الموحّد حيال لبنان وتشكيل المحكمة ذات الطابع الدوليّ في ما خصّ جريمة اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري.
هذه كلّها إشارات الى عودة الاستقطاب، أو بالأحرى، ولادة استقطاب من نوع ما لا بدّ أن نكتشف له، في المستقبل القريب، تعريفاً أدقّ. لكنْ لنلاحظ، مع هذا، أن روسيا امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن حول المحكمة، إلا أنها لم تصوّت بالضدّ والنقض على جاري العادة السوفياتيّة القديمة. وهي إشارات رمزيّة وفعليّة الى حدود الممانعة التي قد تبديها موسكو اليوم. فلا القوّة العسكريّة المتواضعة، بعد تفكيك الاتّحاد السوفياتيّ، توفّر القدرة على مواجهات مشرعة على المدى الكونيّ، كما اضمحل، بسقوط الشيوعيّة كأيديولوجيا رسميّة، ذاك التماسك الإيديولوجيّ الذي كان في عهدة الكرملين. أمّا الاقتصاد، وعماده اليوم الثروة النفطيّة وأسعار النفط، فمما يحمل الروس على طلب الاستقرار والخطوط المفتوحة مع المستهلك الغربيّ، وهي جميعاً شروط لا تجارة من دونها ولا متاجرة. وغنيٌّ عن القول إن هذا العنصر لم يكن في حسابات الاتّحاد السوفياتيّ أصلاً، هو البلد الذي مكث سبعة عقود خارج السوق.
لهذا من الطبيعيّ أن يقلق العالم قليلاً من جرّاء لوحة الاستقطاب التي ترتسم. أما الوصول الى حرب باردة أخرى، فأغلب الظنّ أنْ لا. فهي لا تزال صقيعاً يعوزه الكثير من التسخين كي يغدو برداً.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حازم صاغية