أوّلاً- هذه مسألة لا بدّ من العودة إليها المرّة بعد المرّة:
هناك، في اللغة السياسيّة العربيّة، استخدام مفرط لتعابير "الكرامة" و"العار" و"الشرف" و"الشرفاء". وهو مما ينمّ عن أمرين، أحدهما أن السياسة لم تستقلّ بعالمها وبقاموسها المصاحب له عن الأخلاق، والثاني أن منظومة القيم القَبَليّة والعشائريّة لا تزال تتحكّم بالوعي السياسيّ العربيّ في عمومه.
ففي البلدان حيث استقلّت السياسة بذاتها عمّا عداها، وهو ما بدأ يحصل في الغرب منذ ماكيافيللي في القرن السادس عشر، لا يُعرّف السياسيّ بأنه شريف أو غير شريف، بل تُسبغ عليه صفات كـ"يساريّ" أو "يمينيّ"، "راديكاليّ" أو "إصلاحيّ"، "مؤيّد لـ" كذا أو "معارض لـ" كذا إلخ... حتّى حين يتبيّن أن السياسيّ المعنيّ بالأمر فاسد، والفساد موضوع يتقاطع تعريفاً مع المسألة الأخلاقيّة، فإنه يوصف بـ"الفاسد" وليس، مثلاً، بـ"القليل الشرف".
لكن الملاحَظ، في ما خصّ ثقافتنا السياسيّة، أن تعويلها المبالغ فيه على ثنائيّ "العار" و"الشرف" يترافق مع فهم معيّن لهذين المفهومين. وهو، بمعنى ما، نتيجة طبيعيّة لا تحمل على الاستغراب وإن دفعت الى الإمعان في محاكمة الثقافة تلك.
فنحن، مثلاً، ندرج القتال ضدّ العدوّ، أيّ عدوّ، في خانة "الشرف"، والاستسلام أمامه في خانة "العار". وهذا صحيح وسليم، بطبيعة الحال، من منظور الثقافة قيد التناول. ما ليس صحيحاً أننا حين ننهزم مثنى وثلاث ورباع، يصير الموقف "الشريف" هو أن نستسلم بـ"رجولة" و"كرامة"، فيما موقف "العار" هو أن نتحوّل إلى أذلاّء متسوّلين ومهجّرين، هزائمهم تتعمّق وانهياراتهم تتعاظم وهم ماضون في "المقاومة" لا يلوون على شيء.
ولمّا كان مفهوم "الشرف" يتّصل بمفهوم "الرجولة"(وكم نقول في امتداح أحدهم إنه "رجل رجل"، غير متنبّهين الى ان التعبير احتقار صريح للمرأة!)، فإن "الرجولة" يُفترض أن تحضّ على احترام النفس. فالذي يُقرّ بهزائمه "رجل" يتحمّل مسؤوليّة أفعاله، كما يسائل عنها حكّامه، وتكون لديه شجاعة الإعلان عن وضعه الفعليّ وما آل إليه، فضلاً عن محاولته، عبر إقراره هذا، وضع حدّ لرداءته المتمادية وما ينجرّ عنها من إفقار وإذلال، اقتلاع وتهجير وتسوّل.
وهذه ليست حالنا، حيث ان مفهوم "الشرف" لدينا عنيد جدّاً، وهو، كذلك، ضيّق جدّاً لا يمارس نفسه إلاّ في القتال و"المقاومة". أما في ما خصّ نتائج القتال المشار إليها، من ألم البشر الى التسوّل عند الدول المحاولة، فعند هذا الحدّ يتوقّف اشتغال "الشرف".
والحقّ ان الذي يعاين أوضاع العرب في العراق وفلسطين والسودان، يُدهشه أن ما من صرخة "شرف" مدوّية تصعد في فضائنا وتطالب بإنهاء هذه المرحلة المهينة لنا حتى لو كان ذلك عبر الاستسلام.
على العكس تماماً: الحاصل الآن أن الصراخ الأعلى صوتاً هو ذاك الكفيل باكتشاف نصر بعد آخر نحقّقه من خلال القتال وما يلازمه من "صمود" شهير. وأسوأ من ذلك، أن البيئة الثقافيّة والنخبويّة لا يزال مزاجها الطاغي يزكّي القتال والصمود غير هيّاب. وهذا، مع العلم، أن البيئة المذكورة هي التي يُعوّل عليها إنتاج نظام قيم بديل والخروج بتأويلات أشدّ عقلانيّة ومعاصرة للمفاهيم المستخدَمة.
إن مفاهيم "الرجولة" و"الشرف" تحثّ على إنهاء هذا الوضع الرهيب بكافّة المعاني. أما "العار" فهو أن نحصد نتائجه ونمضي كأن شيئاً لم يكن.
ثانياً- ليس من قبيل تعميم اليأس ولا من قبيل إشاعة التشاؤم أن يقال إن الآتي، الذي يتقدّم مسرعاً صوبنا، ربّما كان أسوأ من الراهن السيّئ جدّاً بدوره.
فمع أيلول(سبتمبر) 2001، شرع عدد من المحلّلين يضعون يدهم على الصراع الجديد الذي يحلّ محلّ الحرب الباردة ومنطقها. وقد استقرّ وصفهم على أن العنف المقبل سيكون عنف منظّمات معولمة وعلى شيء من الغموض والزئبقيّة، لا عنف دول وجيوش منظورة وكلاسيكيّة، فيما سيأتي هذا المسار مصحوباً بانتشار غير مسبوق في وسائل القتل وأسلحته. ذاك ان شبكات الجريمة والمافيات ومعها انهيار بعض الدول وبيعها ممتلكاتها، بما في ذلك أدوات الموت لديها، ستعمل جميعاً على تعزيز الوجهة هذه.
والكلام هذا صائب وخاطئ في وقت واحد:
صائب، لأن صعود تلك المنظّمات بات أمراً محقّقاً لا يُمارى فيه ولا يُناقش.
وخاطئ، لأن الحرب الباردة إنما يُراد لها أن تتجدّد، على ما يدلّ النشاط الروسيّ، السياسيّ والديبلوماسيّ الحاليّ، ولو باختلاف في اللغة وبعض التفاصيل عن العهد السوفياتيّ المنصرم.
صحيح ان روسيا قد لا تكون قادرة على إنجاز ذلك. بيد أن هذا لا يلغي المحاولة، كما لا يلغي ترتيب أكلاف ضخمة على شعوب الأرض من جرّائها.
وفي الغضون هذه قد يجوز القول إننا "كسبنا" حروب المنظّمات من دون أن نخسر حروب الدول، أتمّت بالواسطة أو بغير الواسطة. وتكفي نظرة سريعة الى خريطة العالم للانتباه الى الموقع المركزيّ الذي تحتلّه منطقتنا في نمطي الحروب هذين. فنحن، من جهة، مصدر حرب المنظّمات، بسبب انبثاق "القاعدة" منا، كما بسبب القرب بيننا وبين أوروبا والذي يشكّل الجسر الوطيد لعولمة العنف. كما اننا، من جهة أخرى، جنوب روسيا، بالمعنى الاستراتيجيّ – الكونيّ للكلمة.
وقصارى القول إن العرب قد يجدون أنفسهم مطحونين بالحربين في وقت واحد(راجع الضجيج عن "صفقة" الطائرات الروسيّة الأخيرة لسورية، والتي، في حال صحّتها، تؤكّد هذه الميول الجديدة على نحو لا يرقى اليه الشكّ). فلا يبقى، والحال هذه، إلا استعدادات المنطقة لاستيراد الحربين واستدخالهما، وهي استعدادات بالغة الخصوبة، على ما تشي الأزمة الإيرانيّة – الأميركيّة وأوضاع العراق وفلسطين ولبنان.
إن للقلق موجبات لا تخطئها عين ناظر.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   حازم صاغية