إذا صحّ أن العداء للحداثة، أو حتى التحفّظ عنها، في زمننا الحديث هذا، هو موت لصاحبه، مباشر أو بطيء، صحّ أيضاً أن التسرّع في طلب الحداثة والإقبال عليها بطريقة آليّة وغير خلاّقة قد يتسبّبان في موت مماثل.
وما نقوله هنا يرتكز الى سيرة جواهر لال نهرو الذي يكثر، هذا العام، التذكير به، تبعاً للاحتفال بالذكرى الستين لاستقلال الهند. وكما هو معلوم، ترافق الحدث الأخير مع حرب شهيرة أفضت الى انشقاق الباكستان عنها ومقتل مليون شخص وتهجير متبادل طال عشرة ملايين إنسان من الطرفين.
فإذا كان المهاتما غاندي الأب الروحيّ للهند، فإن نهرو أبوها السياسيّ ومهندسها كدولة. وهو الذي ترك أهمّ البصمات على حياة بلده العامّة، خصوصاً وقد "ورثته" ابنته أنديرا في سدّة رئاسة الحكومة، ولا تزال عائلته، رغم مقتل راجيف غاندي، تتصدّى لقيادة حزبه، "حزب المؤتمر الهنديّ"، ممثّلةً بزوجة راجيف، الإيطاليّة الأصل، سونيا.
لكنْ لئن كان المهاتما غاندي، على جلال نزعته اللاعنفيّة وسموّها، معادياً للصناعة والحداثة والتقدّم، فقد كان نهرو ساعياً إليها على نحو لا تحتمله الهند، ولا تركيبها الدينيّ والإثنيّ خصوصاً. لا بل ان تجربة الزعيم الراحل إنما تتكشّف عن أن بعض مواقفه وآرائه، وبعض طرقه المتعجّلة وشبه الانقلابيّة، أسهمت في إيصال الهند الى التقسيم، كما لعبت دورها في تأجيج النزاع والتكارُه بين هندوسها ومسلميها.
والسيرة المريرة هذه تبدأ مع اكتشاف الشابّ الأرستوقراطيّ لتعاليم الاشتراكيّة، ومن ثمّ احتلالها موقعاً محوريّاً في اكتسابه هويّة سياسيّة وايديولوجيّة لازمته طويلاً.ذاك أنّ رحلته الى روسيا عام 1927،
أي بعد عشر سنوات فقط على ثورة أكتوبر البلشفيّة، بدت منعطفا في حياته وتكوينه،عاد بعدها متأثّراً بالماركسيّة، يسعى الى ضبطها في وجه "إنسانيّ" للاشتراكيّة.يومها كان الاتّحاد السوفياتيّ يدخل محطّته الستالينيّة،مشوبة بالدم وبتصفية سائر رفاق الثورة الأوائل، كما بتحطيم الجمهوريّات الآسيويّة المسلمة التي جدّدت الشيوعيّة، بعد القيصريّة، ابتلاعها. لكنها، على رغم ذلك، نجحت في أن تعطي نهرو المضمون الفكريّ الذي طالما عاب على حزب المؤتمر "البورجوازيّ" الافتقار اليه، كما قوّت لديه العداء للقوميّة على عمومها. وفي المناخ هذا، تضعضعت علاقته بحزبه وأوشك أن يستقيل منه غير مرّة، كما كاد ينضمّ الى الحزب الاشتراكيّ الهنديّ لدى تأسيسه عام 1934.
فعبر اليسار الراديكاليّ ظنّ أنه يخطو بالهند خطوته الأولى نحو تسريع إخراجها من تخلّفها والسير بها نحو ما تراءى له أنه التقدّم. بيد أن مرحلته الاشتراكيّة تلك، والتي أورثته عداء عدد من وجوه حزب المؤتمر وكتله، انتهت به الى تسرّع آخر في طلب الحداثة والتقدّم. فمع نهاية الثلاثينيات تحوّل جواهر لال نهرو الى مزاود في وطنيّته الهنديّة وفي ولائه لحزب المؤتمر كأداة وحيدة لخدمة الوطنيّة تلك، فضلاً عن الإصرار الحديديّ على نيل الاستقلال بأسرع ما يمكن. وقد ترافق التحوّل هذا مع تطوّرات سياسيّة عدّة كان أحدها النزاع مع "الرابطة المسلمة" بعدما كان الحزبان قد خاضا، على لوائح موحّدة، انتخابات1937 في بعض المقاطعات والمناطق. وباختصار، غدا نهرو قوميّاً هنديّاً دوغمائيّاً ومتشدّداً في عدم إقراره بالخصوصيّات داخل هويّة هنديّة جامعة ومحكمة، وفي إصراره على جعل لغة "الهندي" لغة الهند بأسرها. وهذا مع العلم بأن ذاك البلد - القارّة يتكلّم عشرين لغة أساسيّة، ما عدا اللغات الفرعيّة، تنقسم، بدورها، الى مئات اللهجات. كذلك بدت له "القوميّة المسلمة" رجعيّة وتقسيميّة، بينما المؤتمر وحده الإطار الوطنيّ العلمانيّ القادر على استيعاب الجميع تحت مظلّته. وفي مناخ ضعف الثقة هذا، راحت تتعاظم المخاوف لدى المسلمين من أن يتيح النظام الديموقراطيّ لأكثريّة هندوسيّة أن تهمّشهم وتتجاهلهم. ولئن بات المؤتمر، تحت تأثيره، يرفض كل تعاون مع الرابطة مطالباً بحلّها، شنّ نهرو هجوماً كاسحاً على محمد علي جناح، زعيمها المعتدل نسبيّاً. وبالفعل اندفع جناح، من موقعه، الى التعاطف مع المطالبين بإقامة باكستان مستقلّة عن الهند، خصوصاً أن التنافس السياسيّ والزعاميّ استمرّ بينهما على قدم وساق.
وفي هذه المعاني جميعاً، عملت حزبيّة نهرو ونضاليّته الاستقلاليّة المستعجلة على إحراق المراحل في النزاع مع المسلمين، وليس مع البريطانيّين أساساً.
وهذا، بطبيعة الحال، ليس القصد منه ردّ التقسيم والكوارث التي رافقته الى نهرو، والتغافل عن جوانب القصور والتردّي في الوعي السياسيّ الإسلاميّ كما في البيئة الهندوسيّة الأشدّ تطرّفاً، والتي خرج منها من اغتال المهاتما غاندي. إلاّ أن دور النُخب هو ما لا يجوز تجاهله والاكتفاء بالثناء والمديح مما تزخر به في العادة المناسبات الوطنيّة الكبرى.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حازم صاغية