أوّلاً- قرّرت"حركة فتح" أن تخوض معركة المساجد مع "حركة حماس". حشدت الأولى المصلّين بكثافة فردّت الثانية بالقمع الصريح.
مؤسف ومؤلم أن يكون عدد المصلّين، داخل الجامع أو في العراء، هو المعيار الذي تُقاس به السياسة عندنا، كما تُقاس به شعبيّة قوّة ما وحزب ما.المكان الصالح لامتحان كهذا هو، طبعاً،صندوق الاقتراع،وإلاّ فالاستفتاء.ومع ذلك، للمسألة وجه آخر:فما دامت"حماس"وأطراف أخرى مشابهة يبالغون في تديين السياسة وصراعاتها، فلا بأس بملاقاتهم في منتصف الطريق، علّ ذلك يثنيهم عن المضيّ في هذه اللعبة - لعبة التديين والاستخدام للمساجد.هذا ما فكّرته "فتح" وما أرادت إثباته.
تكتيكيّاً، ربما حقّقت الأخيرة هدفها. أما استراتيجيّاً، فالمطلوب موقف أكثر جذريّة حيال منطق التبادل "السياسيّ" هذا الذي يُبقينا ندور في الحلقة المفرغة إيّاها. فلنراجع كامل التجربة السياسيّة الحديثة في المشرق العربيّ حيث لم تكفّ مرّةً عن المزاودة بالدين والصلاة.
ثانياً- قال إيهود باراك إن"حزب الله" ضاعف قدراته الصاروخيّة قياساً بما كانت عليه الحال في حرب الصيف الماضي.وبدوره، سبق لحسن نصر الله أن أكّد مراراً، من موقعه المغاير، وبكثير من التشاوف والتعالي، على الطاقة المتعاظمة لصواريخه.
وزير الدفاع الإسرائيليّ وأمين عام "حزب الله" يتّفقان، من موقعيهما المتناقضين، على إعلان حقيقة خطيرة،وخطيرة جدّاً:إن لبنان لم يغدُ في قلب الصراع العربيّ – الإسرائيليّ فحسب،وهو المطلب المزمن للراديكاليّين اللبنانيّين والعرب، وطبعاً لحكومة دمشق التي تجيد توظيف ذلك. لقد أضحى لبنان، فوق هذا، الطرف الوحيد في هذا الصراع. ونظرة سريعة الى حال الجبهات تُظهر هذا الاختلال المريع.
بيد أن ما يجعل الخطير أخطر، والسيّئ أسوأ، أن ما يُخاض من لبنان ليس صراعاً عربيّاً - إسرائيليّاً، بل هو صراع إيرانيّ - إسرائيليّ على هذه الرقعة من الأرض والبشر التي تقع بينهما، والتي هي... نحن!
ثالثاً- كأنّه ماضٍ لا يمضي: الدور الروسيّ في المنطقة عادت الأضواء تتركّز بقوّة عليه بعد الأنباء المتعلّقة بإعادة بناء قاعدة طرطوس، ذات البُعد المتوسّطيّ، وبالصفقة الصاروخيّة الأخيرة لروسيا. ولكنْ قبل هذا وذاك، في ظلّ طموح سيّد الكرملين لاستئناف الدور الإمبراطوريّ لبلده، الذي انقطع مع انهيار الاتّحاد السوفياتيّ أوائل التسعينيات.
وهو كلّه إنما يواكبه كثير من التصفيق وكثير من الحماسة لانبعاث دور روسيا في مقابل الولايات المتّحدة. العرب إذاً سعداء!
هذا فعلاً سبق أن رأيناه من قبل، وبشروط أفضل مما يجري اليوم.لذلك يُستحسن ضبط التصفيق والحماسة قليلاً كي لا يكون الإحباط اللاحق كبيراً بدوره.وهو إحباط يعرف كلّ متابع للداخل الروسيّ، وللاستبداد الذي يُساس به، أنه آت لا محالة.
رابعاً- أيضاً، كأنّه ماض لا يمضي: بعد أيام تحلّ الذكرى الـ15 لمجزرة صبرا وشاتيلا في بيروت. سوف تتكرّر الأهازيج نفسها عن الجريمة الصهيونيّة وارتكابات عملاء إسرائيل بحقّ مدنيّين أبرياء.
هذا كلّه كلام صحيح، غير أنه مكرّر للمرّة المليون،لا يقدّم في الأمر ولا يؤخّر.
الشيء المطلوب قوله والذي لا يُقال أبداً: كيف اتّصل النزاع الأهليّ اللبنانيّ - اللبنانيّ واللبنانيّ – الفلسطينيّ بتلك المجزرة؟ كيف تأدّت الأخيرة عن الأوّل؟ كيف نتجنّب "دخول إسرائيل على الخطّ" عبر تجنّب تفجير النزاعات الأهليّة، وبالتالي من طريق بناء مجتمعات تقبل التوصّل الى تسويات وتحاصر التناقضات والمخاوف في ما بين جماعاتها؟
خامساً- الباحثة الأميركيّة الإيرانيّة الأصل هاله أصفندياري "اعترفت" هي الأخرى بأنها شبه جاسوسة بعدما سبقها الى"اعتراف" مشابه الباحث رامين جاهانبغلو وآخرون غيره. هكذا خرجت أصفندياري، التي اعتُقلت حين زارت أمّها في طهران، من السجن.
غريب هو النظام التوتاليتاريّ منذ ستالين(الذي درّج عادة "الاعترافات" هذه) حتّى اليوم. الغريب ليس أنه يكذب، بل انه يعرف ان الجميع يعرفون أنه يكذب. ومع ذلك يمضي، الى ما لا نهاية، في هذه اللعبة "مسلّحاً جماهيره" بهذا الوعي الكاذب. لكنْ أيّة "جماهير" هي هذه التي تتسلّح بالكذب؟
سادساً- قرار مقتدى الصدر وقف ميليشياه "جيش المهديّ" ربما كان يستحقّ الترحيب الذي حظي به، غير أنه لا يدفع الى النوم على الحرير. فالنزاعات الأهليّة هي التي تخترع تنظيماتها وميليشياتها، لا العكس. والجهد، كي يكون مثمراً، ينبغي أن ينصبّ على الأصل، لا على الفرع، أي على النزاعات لا على ميليشياتها التي تنهار في مجرّد إرساء أساس سياسيّ للتغلّب على أسباب العنف.
في هذا المعنى، وما دام مقتدى الصدر وأمثاله بدلاء الدولة العراقيّة، يمكن للعنف أن يتكرّر، بـ "جيش المهديّ" ومن دونه، ويمكنه، كما حصل من قبل ويحصل اليوم، أن يتجاوز النطاق الطائفيّ(سنّيّ-شيعيّ) والإثنيّ(عربيّ-كرديّ-أشوريّ-تركمانيّ الخ.)، ليقيم داخل كلّ طائفة وإثنيّة، فلا يكفّ عن الاشتغال إلاّ وقد أصبح كلّ عراقيّ يقاتل كلَّ عراقيّ آخر.
سابعاً- على عكسنا، في الأنظمة الديموقراطيّة البرلمانيّة، الماضي يمضي والمستقبل يلي. نيلسون مانديلا احتُفل، في لندن، برفع الستار عن تمثاله في ساحة البرلمان، قريباً من تماثيل رجالات بريطانيا التاريخيّين. مانديلا كان حاضراً هناك، وهناك كان غوردون براون رئيس الحكومة التي كانت ترى، قبل أقلّ من عقدين، أن زعيم جنوب أفريقيا القابع في سجنه... إرهابيّ!
حازم صاغية
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة حازم صاغية العلوم الاجتماعية الآداب